ساسي جبيل (تونس)
سؤال الذاكرة في شهر رمضان يعود بالدكتور حاتم الفطناسي، الكاتب والناقد التونسي، إلى الطّفولة الأولى والصّبا الأوّل، والشّباب، فيقول: رمضان شهر نورانيّ كنا ننتظره كما ننتظر جمالاً في الحلم، كان مساحة زمنيّة عجيبة نعيشها بلذّة، كنّا نصرّ على الصّوم تشبّهاً بالكبار، وكأنّنا، أطفال، نشرّع لما نعيشه من المتعة، ونتناوله من أطيب المأكولات والحلويّات ومساحات اللّعب والحبور ليلاً.
كنت أجد في الأصوات، أصوات الأذان وترتيل الأوراد وصلوات التّراويح المنبعثة هنا وهناك من مساجد المدينة وجوامعها سمفونيّة رائعة، كما أجد في أصوات الباعة في أسواق مدينتي، مدينة القيروان وفي أريافها وأزقّتها غذاء للرّوح فأطرب لها طرباً عجيباً.
ويضيف الفطناسي: ما زلت أذكر طقوس الإفطار وطقوس الإمساك والطّقوس التي نأتيها في المساء، ما زالت ذاكرة الرّوائح عندي نشطة، روائح المأكولات والحلويّات، روائح الخضر والغلال، روائح البخور والصّندل...
وأشار الأكاديمي التونسي إلى الأجواء الخاصة، حيث لفت إلى أنه كتب الشعر في صباه وشبابه، وكانت المسامرات الأدبية والشعرية التي تقام هنا وهناك في دور الثقافة والشباب فرصة ثمينة لإبراز المواهب، وكانت اللّقاءات ليلاً، مع أساتذتنا الشعراء من أمثال المنصف الوهايبي، محمد الغزي، البشير القهواجي والرّوائي صلاح الدّين بوجاه وغيرهم من رسّامي المدينة وفنّانيها، مناسبات ثمينة لنتعلّم ونتبادل الكتب ونحفظ الأشعار ونشاهد المسرحيات التي كان مهرجان المدينة يوفّرها لنا.
سحر لا يوصف
ويشير الفطناسي أن للمكان سحراً لا يوصف ساهم في تكوين شخصيّته الفرديّة والجماعيّة وهو أمر طبيعيّ، بين شهر رمضان المعظّم ومدينة القيروان، المدينة المفتوحة في السّنة الأربعين من الهجرة النبوية، مدينة الصّحابي الجليل أبي زمعة البلوي، مدينة الفاتح العظيم عقبة بن نافع، مدينة المساجد والأضرحة والأولياء والعلماء، مدينة الأغالبة، بعد ذلك مدينتي ومسقط رأسي الملفّحة بهالة من المكانة الروحيّة الأثيرة في العالم الإسلامي وفي بلاد المغرب الكبير.
لرمضان في القيروان سحر لا يقاوم، ما زلت أذكر أصوات صنّاع الأواني النّحاسيّة التي تزدهر صناعتهم استعداداً لتنظيف الأواني وتلميعها، استعداداً لرمضان ولعيد الفطر المبارك... ما زلت الأصوات والألوان ملء سمعي وباصرتي، عندما تتلألأ الأضواء وتعمّ المصابيح الملوّنة دكاكين المدينة ومقاماتها وصومعة الجامع الأكبر، جامع عقبة بن نافع الفهري وسائر مساجد المدينة تتحوّل المدينة إلى ما يشبه «الثريّا»... هكذا كانت القيروان، في الزمن القديم، هكذا كان زمان «رمضان» يرتبط المكان بالزمان ارتباطاً سببيّاً، يضفي الشّهر الفضيل على المدينة سحراً، وتضفي المدينة على الزمان روحانيّة عالية ونورانيّة لا تعاش إلاّ فيه.
قراءات رمضانية
أما عن الراهن فيراه الفطناسي مختلفاً، حيث لم تعد الأجواء هي نفسها بفعل التغييرات وتغيّر المعمارية والسّوسيولوجيّة، وتغيّر العادات والتقاليد، رغم المحاولات المتعلّقة التي تسعى إلى المحافظة على طقوسية الشهر.
ويضيف: في راهني أعيش في سوسة على قارعة «المتوسّط»... أمزج الطقوس مزجاً، بين جولاتي في مدينتها العتيقة الجميلة وبين جلال البحر وجماله وسمفونيّاته الصّامتة النّاطقة المحيلة إلى عظمة الكون.
أما عن علاقته بالكتابة خلال الشهر الكريم، فيرى الفطناسي أنه كان قارئاً نهماً للقصص والرّوايات، وكتب جرجي زيدان ومحمد عبد الحليم عبد الله ومصطفى لطفي المنفلوطي وآخرين كثيرين، ويضيف: حفظت القرآن وقرأت كتب التاريخ كالطبري وابن خلدون وغيرهم... في رمضان أقرأ الرواية وخاصّة الرواية العالميّة، وأقرأ هذه السّنة بعض روايات الكاتب الجزائري الكبير واسيني الأعرج ورواية (نازلة دار الأكابر) لزميلتي المبدعة أميرة غنيم.