عبد الله أبوضيف (القاهرة)

رحلة طويلة تمتد لما يزيد على ثلاثين عاماً من الكتابة والإبداع، سارها الشاعر والروائي المصري علاء خالد، وخلالها تعرّضت حياته لتقلّبات انعكست على نصوصه، ووصلت به إلى محطة الحصول على جائزة شعر الفصحى عن ديوانه «العدم أيضاً مكان حنين» بمعرض القاهرة الدولي للكتاب 2023.
ووصف علاء خالد الجائزة بأنها فوز لرحلة الكتابة، والكتابة عنده بعد ظروفه المرضية تسكن منطقة بين الموت والحياة، حيث يرى الأشياء بعين وروح متسعتين، وتحدث عن الجانبين السلبي والإيجابي لوسائل التواصل على الأدب والقراء، وتطرق إلى حركة النقد، وهو يعتقد أن السياسة في الماضي خربت الحياة الثقافية وأدخلتها في نفق ضيق.
وفي حديثه لـ «الاتحاد الثقافي» أكد خالد أن الفوز جاء في الوقت المناسب لرحلة كتابة امتدت إلى ثلاثة عقود: خلالها كنت مشغولاً بقوة الكتابة في تحييد مظاهر التحلل وسيطرة قيم الاستهلاك التي تجري من حولنا في الحياة اليومية، هذه القوة التي كانت تمنح الروح استقلالها النسبي، أخذت تتغير بقوة ضغوط الخارج، ربما لم يحدث تغيير جوهري في طبيعة الكتابة، ولكن حدث ما يمكن أن أسميه إنهاكاً روحياً بدأ بوضع علاماته على نظرتي للحياة، وعلى ممارساتي خاصة الكتابة. ومن هذه المرحلة والجدل الذاتي حولها، خرج الديوان الأخير «العدم أيضاً مكان حنين»، وربما كان فوزه جائزة لهذه المرحلة من مقاومة الإنهاك بالكتابة، فداخل هذا الإنهاك كانت تتبلور وتتكثف قطرات شعرية شديدة الغور في الروح المنهكة، التي كانت تريد أن تحيا على الرغم من انفصالاتها ومتاعبها اليومية. 

قصيدة النثر
وحول رؤيته لواقع قصيدة النثر المصرية والعربية، يقول علاء خالد: إن صعود قصيدة النثر جزء من مقاومة حالة الصعود السياسي الجماهيري، والمرتبطة بمرحلة المد القومي في الخمسينيات وما بعدها، بمعنى أن هذا المد يشكل الجانب الآخر لها الذي بلور الفردانية في حضوره، وكان جزءاً من مكونات هذه القصيدة وسبب ولادتها، وظلت الحال مستمرة حتى نهاية هذه الأفكار السياسية في التسعينيات.
ويضيف: هناك تجارب شعرية قصيرة الأجل، بعكس بدايات قصيدة النثر وتنوعها وطموحها، فهناك أصوات مصرية وعربية قوية ومتميزة لها دواوين، ولها خصوصيتها، ولكن ربما ليست لها «فردانية» منفتحة بالمعنى الوجودي يمكنها أن تنشئ مشروعاً شعرياً ممتداً بالمعنى الواسع للكلمة كما بدأت قصيدة النثر رحلتها. 

وسائل التواصل
وعن تأثر الأدب بوسائل التواصل الاجتماعي، يرى علاء خالد أن وسائل التواصل أنقذت الأدب وفتحت المجال لمقروئية لم يكن أحد يحلم بها، ففي عصور الاضمحلال في التسعينيات كانت طبعات الدواوين وغيرها من الأنواع الأدبية لا تتجاوز ثلاثمائة نسخة على أقصى تقدير، فقد تقلص المشهد الثقافي حينها إلى مجموعات نخبوية تقرأ لبعضها بعضاً في غياب الجمهور أو القارئ المثقف بمفهوم الستينيات.
ولكن على حساب هذه اليقظة التي سببتها هذه الوسائل حدث نوع من العشوائية، وليس التعدد في ظهور أشكال أدبية وأساليب قديمة إلى حد ما بأفكارها وشكلها كأن الأدب لم يتقدم، وظهرت كانتقام على غيابها عن التمثيل في عصور ازدهار الأدب في الستينيات وما بعدها على سبيل المثال.
ويضيف خالد: في رأيي فقد سمحت وسائل التواصل الاجتماعي لكل الفرقاء بالوجود معاً، مع حضور ما يسمى بالجمهور القارئ، وأغلب رواد هذه الوسائل ليسوا قراء مثقفين ولكنهم هواة، فمالت الكفة لظهور أشكال أدبية سطحية، ظهرت انتقاماً من الأدب الجاد الذي كان يروّج له في الماضي. وأصبح القراء وجموعهم ومزاجهم القائد للمسيرة في العلاقة بين الكاتب والقارئ، وصار الكاتب أضعف حلقات هذه السلسلة، فتغيرت المعادلة تماماً مع هذا الوسيط الذي سيستمر معنا ويغير حياتنا نفسها وليس الأدب فقط. ولكن لا أنكر أن حضور وسائل التواصل الاجتماعي ساهم في وجود القارئ بالنسبة لي، والذي لم أكن أعرفه في بداية رحلتي مع الكتابة، ولولاها لظللت أتحسس حضور هذا القارئ في الظلام.

النقد الشعري
عندما سألت الشاعر والروائي علاء خالد عن نقد التجارب الشعرية الجديدة، أجاب: إن تاريخ النقد في مصر غير مؤسس بشكل علمي، لم يكن علماً منفصلاً له أزماته الداخلية وتصنيفاته ومدارسه، ولكنه عبارة عن مجهودات أفراد قلائل تحقق فيهم المعنى الشامل للنقد، وليس المعنى الأكاديمي الذي يندرج تحته الكثيرون، ولذا لم تُكتب لمحاولاته أن تحوز الدقة الإنسانية بعد موت نظرياته والتقليل من شأن الفكرة الجمالية التي كان يعتمد عليها الناقد الأكاديمي بصفته الخبير المثمن لها داخل النصوص.
وبرحيل النقاد الأكاديميين الكبار في مصر أو العالم العربي، لم تظهر كتابات نقدية لامعة، ليس فقط لتساير الإنتاج الشعري الجديد ولكن لتبحث في مفهوم النقد ذاته، وتكشف عن مهمته الجديدة كما يحدث في كل أنحاء العالم. هذه الأفكار والاتجاهات لم تصل لنقادنا، وقد يعود هذا إلى حالة الكساد الثقافي التي تحدث بعد أن كان النقاد سابقاً معاصرين لمراحل تحولات النقد والنشاط الثقافي، لذا أعتقد أن النقد والشعر يسيران في نفق مظلم لغياب الأدوات الجديدة للنقد التي تحدد وظيفته ودوره، بجانب تباعد المسافة بين الناقد والإنتاج الأدبي والتجارب بسبب الاتساع المهول للمشهد الأدبي وتفرقه على وسائل التواصل الاجتماعي.
ويضيف: من هنا تخرج نظرية نقدية تتعايش مع الحياة واستمرارها في الكتابة، ولابد للناقد أن يملك أدوات أوسع من أدوات النقد التقليدية، وأن يتسم بروح الإثنولوجي المتأمل للظواهر الجديدة، ناقد متخصص ومتعدد المعرفة في آن، لأن التجارب الشعرية الحديثة لها نوافذ متعددة منفتحة على أنواع وأشكال أدبية متنوعة وعلوم مختلفة.

لا شاهد إلا الكتابة
انعكست تجربة المرض على إبداعات علاء خالد -كما يقول- باستيعاب التحول في حياة الجسم والروح في محاولة لاستيعاب المعنى الذي يقف وراءها داخل حياته، وبالطبع اتخذ هذا وقتاً ليلمس علاماته في نفسه وكتابته. مع المرض، يحدث قطع مفاجئ في مسيرة الحياة، ثم يستعيد الجسم سيرورته، في محاولة لإذابة آثاره النفسية، أشعر بذوبان وسيولة منطلقة الأحاسيس والأفكار، لا تقف أمامها الحواجز التي رباها الخوف من الموت أو من الحياة، هناك منطقة بين الموت والحياة تسكنها الكتابة الآن.
ويضيف علاء خالد: لا شاهد على هذا الاستيعاب إلا الكتابة، أرى الأشياء من مسافة وبعين وروح متسعتين، فقد زال الغضب ومعه التعصبات والاختناقات النفسية بفعل هذا الذوبان وهذا القطع الذي غيَّر من نظام الذاكرة والنسيان، وأصبحت مستسلماً من دون هزيمة، أرمم الجرح والصدع الجسدي ذاتياً.