إبراهيم الملا (الشارقة)

يبدو أن المنافسة الإيجابية بين النص من جهة وبين الإخراج وتصميم السينوغرافيا من جهة أخرى هي المنافسة المُعزِّزة للعلاقة الإبداعية المتوهجة ألقاً بين الكاتب إسماعيل عبدالله والمخرج محمد العامري، وذلك خلال مسيرتهما المشتركة والمتوّجة بالعديد من الجوائز والإشادات النقدية.
وهكذا تأتي مسرحية: «زغنبوت» التي شاهدها جمهور عريض مساء أمس الأول بقصر الثقافة في الشارقة، ضمن الأعمال المتنافسة على جوائز الدورة الرابعة من مهرجان الشارقة للمسرح الخليجي، فقد رأينا فيها ذروة التنافس والتفاعل بين المحتوى النصّي، وبين الشكل الإخراجي، باعتبار أن ما قدمه إسماعيل عبدالله هو نص شاهق بفضاءاته الشعرية العالية، وعميق أيضاً بتقصّيه لجذور الذاكرة المحلية ولمفرداتها الغنية بالصور المدهشة والتراكيب اللفظية الجامحة، الأمر الذي دفع العامري للتعامل مع النص بتبجيل وتوقير بالغين، والخروج من هذا النص الثري أفقياً وعمودياً بأدوات تعبيرية منبثقة من اللغة الفارهة والجريئة أيضاً ضمن مستويات السرد والحبكة والديالوغ والمونولوغ، وكل ما يمت للجانب الخيالي والافتراضي المرهف والقاسي داخل أدغال النص، وبصيغته الصوتية كذلك التي استطاع ممثلون كبار في العرض أمثال: أحمد الجسمي وإبراهيم سالم والفنانة بدور، ومحمد جمعة، وغيرهم، أن ينقلوه إلى مصاف الأداء التجسيدي النوعي والاحترافي بامتياز.

نمط تجريبي
وتعني كلمة: «زغنبوت» في اللهجة المحلية الدارجة، الأكل الرديء أو الطعام الرخيص الذي تقتات عليه الطيور والبهائم، والذي تحول زمن المجاعة والقحط اللذين ضربا المنطقة قديماً إلى طعام أساسي للأهالي، ومن هنا كانت مقولة: «الجوع كافر» هي المنطلق الأساس الذي انطلقت منه كامل الخيوط السردية والمشهدية للعرض، وكان الوسيط «الدراماتورجي» بين الصورة الذهنية والواقع التجسيدي الذي أبدع العامري في تشييده ووضع بنيته المشبعة بتجليات الفنتازيا الخَشِنة -إذا صحّ الوصف- هو العنصر الأهم وبالغ الحساسية لتحويل نصّ منتم عضوياً وروحياً للمسرح الشعبي، إلى نمط تجريبي تصهل فيه الموسيقا والأغاني الشعبية بجانب المؤثرات السمعية/ البصرية ذات التأثير الديناميكي الفاتن، وكذلك الإضاءة المعبّرة عن حالات الهدأة والتوتر، والصخب والصمت، والتطور التصاعدي للصراع بين الشخصيات، وهي المناخات التعبيرية الحداثية التي يعشق العامري التعامل معها والتصدي لها واختبارها بشكل مختلف في كل عمل جديد له.
يبدأ عرض «زغنبوت» بإضاءة خافتة في منتصف الخشبة، بينما نرى على جانبيها صفيّن متقابلين كأن المسافة الفاصلة بينهما هي مسافة اختلاف في وجهات النظر وفراغ حسي يدل على امتعاض متبادل، وتتداخل في هذه المساحة المتوترة نغمات الفن الشعبي العريق: «الآه هالله» الأقرب إلى الإنشاد الصوفي والذي يعتبر من الفنون المحلية الخالصة والآيلة للنسيان، وبعد توقف الموسيقى المشيرة إلى بيئة وطبيعة المكان وهي بلدة ساحلية تعاني الجفاف بعد توقف الأمطار وانحسار خيرات السماء، نرى حبوب «الزغنبوت» وهي تملأ أرضية الخشبة مع بروز مظاهر الضيق من قبل الناس بسبب المجاعة واضطرارهم للجوء إلى أكل البهائم الذي تعافه الأنفس. 

حلول بديلة
ووسط هذه المجاميع يظهر رجل الدين عبدالرحمن -الممثل محمد جمعة- الذي يذكرهم بنصوص دينية تتحدث عن الابتلاء بالجوع ونقص في الأنفس والثمرات، وضرورة الصبر على هذا الابتلاء المؤقت، ومن جهة أخرى نرى النوخذة «دوّاس» -الممثل القدير إبراهيم سالم- وهو ينتقد الاستسلام لهذا الظرف قائلاً إن على الناس البحث عن مصادر رزق مختلفة، وابتكار حلول بديلة للخروج من مأزق العوز والجوع، وهذا ما يقوم بفعله بعض الأهالي، حيث يقوم أحدهم بحلاقة شعر ابنته الصغيرة كي ينخدع بها التاجر الهندي الذي يطلق عليه محليا اسم: «البانيان» فتعمل كصبي أجير لديه، ويقوم شخص آخر ببيع زوجته لتاجر اللؤلؤ «الطواش» -الممثل محمد بن يعروف- كي لا يموت أطفاله من الجوع، ويخرج من رحم هذه المعاناة الجماعية التاجر محدث النعمة داوود -الفنان الكبير أحمد الجسمي العائد بتألّق واضح للخشبة بعد فترة غياب طويلة- الذي يقوم هنا بدور الوسيط بين أعيان المدينة وأهلها المبتلين بواقعهم القاسي، كي ينيخوا ركابهم ويخضعوا لشروط التاجر الهندي، صاحب الحظوة والأملاك الهائلة والقادر من خلال سفنه الكبيرة القادمة من الهند على أن يسد جوع الأهالي ويكرمهم بالمال والذهب، ولكن بشرط واحد وهو موافقتهم على الاستدانة منه إضافة إلى شرط صعب وإشكالي بجانبيه الديني والاجتماعي والمتمثّل في زواجه من «الجوهرة» ابنة النوخذة «دوّاس».
وبعد شدٍّ وجذبٍ، وبعد امتناعٍ ومماطلةٍ، وبعد تأويلاتٍ وتفسيراتٍ جديدة من قبل رجال دين مؤيدين لوجهة نظر التاجر (داوود) يخضع الجميع لأمر «البانيان» وتصبح «الجوهرة» هي الضحية الكبرى في هذه المأساة الاجتماعية، وكبش الفداء الأول. ولكن يبقى عشيق «الجوهرة» -الفنان حميد فارس- مع ثلة من رفقائه أشبه بحائط الصدّ الأخير في وجه أطماع «البانيان»، والتي يمكن إحالتها افتراضياً إلى الهوية التي لا يمكن الاستغناء عنها أو التفريط فيها، على رغم الظروف المعاكسة.