إبراهيم الملا
تعتبِر منظمة «اليونسكو» أن الثقافة هي التي تُترجم كِياننا، وأنها العنصر المُؤسس لهويّتنا، فترسيخ الثقافة هو من صميم سياسات التنمية، وهو السبيل الوحيد لتحقيق تنمية تتمحور حول الإنسان، وتكون شاملة وعادلة.
إن الرؤية السديدة لانعطافات الحاضر تؤكد دون شك أنّ العوائد الاقتصادية لا تنحصر فقط في السلع الملموسة والمنافع المادية، خصوصاً إذا تعلّق الأمر بالتنمية البشرية المستدامة، وبالتخطيط المدني المستقبلي، لأن الأمر هنا يتجاوز الاستثمار في (رأس المال) بمعناه السائد والمتعارف عليه، ويصل لحدود افتراضية واعدة تعتمد على التخطيط بعيد المدى، وعلى وضع استراتيجيات تعتمد بشكل أساس على «رأس المال الفكري» وعلى «اقتصاد المعرفة» القائمين على الاستفادة من السياحة الثقافية، والاكتشافات العلمية، والبحوث التطبيقية، انطلاقاً من وعي تفاعلي يستشرف التحديات العالمية القادمة، والتي تنظر للإنسان كأهم عنصر استثماري، وباعتباره منطلق ومنبع الإنجازات المتفرّدة والحلول المبتكرة والتصوّرات الخلاقة عند الحديث عن القوة الثقافية الناعمة وتأثيراتها اللامحدودة في المجتمعات المستقبلية.
واستناداً إلى دراسات تحليلية دولية فإن «اقتصاد المعرفة» المتشكّل في فضاء الثقافة المستنيرة، بات يمثل حصة كبيرة في معظم الاقتصادات المتقدمة، وقد يكون أحد المكونات المهمة للأصول غير الملموسة مثل: الإدارة المتطورة، وقيمة المعرفة العمّالية والوظيفية، والملكية الفكرية، وغيرها.
وكما يشير الباحث «آدم هايس»، فإن اقتصاد المعرفة يعتمد على عدة ركائز تتيح للمجتمعات الحضرية أن تتعامل بثقة مع المستقبل، ومن هذه الركائز: التسويق التجاري المتنوع بين البضائع المادية وغير المادية، والاعتماد على التقنيات العلمية، والاستفادة القصوى من المخرجات الأكاديمية، مضيفاً أنه في «اقتصاد المعرفة» يتم تحويل الابتكار القائم على البحث إلى سلعة، من خلال براءات الاختراع وغيرها من أشكال الملكية الفكرية. كما يكمن اقتصاد المعرفة في تقاطع ريادة الأعمال الخاصة والأوساط الأكاديمية والأبحاث التي ترعاها الحكومة، حيث تمثّل الصناعات المرتبطة بالمعرفة نسبة كبيرة من النشاط في معظم البلدان المتقدمة للغاية.
ويعتمد اقتصاد المعرفة على العمالة الماهرة والتعليم وشبكات الاتصالات القوية والهياكل المؤسسية التي تحفز الابتكار، ولذلك تميل الاقتصادات النامية إلى التركيز بشدة على الزراعة والتصنيع، بينما تمتلك البلدان المتقدمة للغاية حصة أكبر من الأنشطة المتعلقة بالخدمات. وهذا يشمل الأنشطة الاقتصادية القائمة على المعرفة مثل البحث والدعم الفني والاستشارات.
عالم ما بعد النفط
على المستوى المحلّي والخليجي، فإن عالم ما بعد النفط سيكون محوطاً ببحيرة غامضة إذا لم يتم من الآن البحث عن مصادر جديدة للدخل القومي، ومن أهمها التركيز على الصناعة الثقافية، وتمكين البيئات الإبداعية وتشجيع التحولات التقنية والقفزات الرقمية في عالم سريع التحوّل ومنشغل بأسئلة وجودية تسعى للإجابة على تطلعات الأجيال القادمة، من أجل تحقيق حرية الإنسان ورفاهيته وضمان العدالة المجتمعية والمساواة للجميع بعيداً عن النظرة المنغلقة والعنصرية، وبعيداً أيضاً عن منحى الأفكار الظلامية والتوجهات المتطرّفة.
وتشكل المتاحف الفنية والأثرية والتراثية والأماكن الحضريّة والمواقع التاريخية القديمة المكتنزة بالممتلكات الملموسة والمعنوية ملمحاً بارزاً للهوية الثقافية، ومصدراً حيوياً ومستداماً للاقتصاد السياحي، وهي من الموارد الجمالية التي يجب صونها وحمايتها والترويج لها من خلال منصات عرض مبتكرة تلبّي شروط التواصل العالمي من خلال اللقاءات المقامة عن بعد، وكذلك من خلال منصات ثلاثية الأبعاد تترجم بدقة أشكال وأنماط ومحتويات المكوّن التراثي والأثري والفلكلوري بالمكان، إضافة إلى ما يمكن أن تصنعه الفنون البصرية المعاصرة والشعبية كالموسيقا والمسرح والتشكيل والرقص والسينما، من عناصر جذب مهمة تحقق أهداف التنمية البشرية وتأخذ باقتصاد المعرفة إلى مسارات تصاعدية تحقق التكامل والتنوّع والإبهار.
إن اقتصاد المعرفة هو سوق إنتاج وبيع الاكتشافات العلمية والهندسية والإبداعية، ويمكن تحويل هذه المعرفة إلى سلع في شكل براءات اختراع أو غيرها ضمن قانون حماية الملكية الفكرية، ويعتبر منتجو هذه المعلومات، مثل الخبراء العلميين ومختبرات البحث، جزءاً من اقتصاد المعرفة.
نقطة تحول
بالعودة التاريخية لمراحل تطور الاقتصاد المعرفي، فإن عام 1980 يمثّل نقطة تحول رئيسية في معالجة الملكية الفكرية، لأنه سمح للجامعات بالاحتفاظ بملكية الاختراعات أو الاكتشافات التي تم إجراؤها بتمويل حكومي للبحث والتطوير والتفاوض على التراخيص الحصرية.
ثم بفضل العولمة، أصبح الاقتصاد العالمي أكثر اعتماداً على المعرفة، وجلب معه أفضل الممارسات من اقتصاد كل بلد على حدة وأيضاً تخلق العوامل القائمة على المعرفة اقتصاداً مترابطاً وعالمياً، حيث تعتبر الخبرة البشرية والأسرار التجارية موارد اقتصادية مهمة.
كما تعود جذور التسويق الحديث للبحوث الأكاديمية والعلوم الأساسية إلى الحكومات التي تسعى إلى تحقيق ميزة متقدمة مقارنة بالدول الأخرى. وتتمثل هذه الميزة في وضع اقتصاد المعرفة ورأس المال البشري على رأس هرم التخطيط المستقبلي، واعتبار التعليم والمعرفة -أي «رأس المال البشري»- كأصل إنتاجي أو منتج تجاري يتم بيعه وتصديره لتحقيق أرباح للأفراد والشركات والاقتصاد.
ويعتمد «اقتصاد المعرفة» بشكل كبير على القدرات الفكرية بدلاً من الموارد الطبيعية أو المساهمات المادية، وفي اقتصاد المعرفة، تعمل المنتجات والخدمات القائمة على الخبرة الفكرية باتجاه تطوير المجالات التقنية والعلمية، وتشجيع الابتكار في الاقتصاد ككل.
عناصر متكاملة
ويحدد البنك الدولي اقتصادات المعرفة وفقاً لعناصر متكاملة تتمثّل في وجود هياكل مؤسسية توفّر حوافز لريادة الأعمال واستخدام المعرفة، وتوفّر كذلك العمالة الماهرة ونظاماً تعليمياً جيداً، من أجل الوصول إلى البنى التحتية لتكنولوجيا المعلومات والاتصالات، وصياغة مشهد ابتكاري نابض بالحياة يشمل الأوساط الأكاديمية والقطاع الخاص والمجتمع المدني.وكمثال على اقتصاد المعرفة، تُعدّ المؤسسات الأكاديمية والشركات المشاركة في البحث والتطوير والمبرمجون الذين يطورون برامج جديدة ومحركات بحث للبيانات والعاملين الصحيين الذين يستخدمون البيانات الرقمية لتحسين العلاجات، كلها مكونات لاقتصاد المعرفة، خصوصاً عندما ينقل وسطاء الاقتصاد هؤلاء نتائج أبحاثهم إلى العاملين في المجالات الأكثر تقليدية، مثل المزارعين الذين يستخدمون تطبيقات البرامج والحلول الرقمية لإدارة محاصيلهم بشكل أفضل، والإجراءات الطبية المتقدمة القائمة على التكنولوجيا مثل العمليات الجراحية بمساعدة الروبوت، أو المدارس التي توفر الوسائل التعليمية الرقمية والدورات عبر الإنترنت للطلاب.
إن الوصول للمهارات المحقّقة لاقتصاد المعرفة يحتاج لتوافر بنية منهجية واضحة للتعليم العالي والتدريب الفني، لأنهما من الأصول الواضحة، كما أن التواصل والعمل الجماعي هما أيضاً مهارات أساسية لاقتصاد قائم على المعرفة، وفقاً لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، فمن من غير المحتمل أن يتمكن أي عامل معرفة واحد من إنتاج ابتكارات رائدة بمفرده، فإن هذه الكفاءات الشخصية وكفاءات مكان العمل ضرورية للبقاء في مكان العمل القائم على المعرفة.
مؤشر المعرفة
تُقاس عوامل اقتصاد المعرفة من خلال مؤشر المعرفة العالمي لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي، الذي حل محل مؤشر اقتصاد المعرفة التابع للبنك الدولي بعد عام 2012. ويصنّف هذا المقياس كل بلد على أساس «العوامل التمكينية» لاقتصاد المعرفة، مثل مستويات التعليم، التدريب التقني والمهني والابتكار وتكنولوجيا الاتصالات.
ويشير الباحث «يوتي هوسغرهار» إلى أنه تم إدراج (الثقافة) لأول مرة في جدول الأعمال الدولي للتنمية المستدامة، وذلك ضمن أهداف التنمية التي اعتمدتها الأمم المتحدة في سبتمبر 2015. ولقد ابتهجت اليونسكو بهذه الخطوة وحيّت هذا «الاعتراف غير المسبوق»، حيث إن حماية الثقافة وتطويرها هما في الوقت نفسه، غاية في حدّ ذاتها ووسيلة للمساهمة المباشرة في تحقيق جزء كبير من أهداف التنمية المستدامة المتمثلة في: مدن آمنة ودائمة، وظائف لائقة، ونموّ اقتصادي، تقليص في الفوارق، حماية للمحيط، مساواة بين الجنسين، مجتمعات سلمية وشمولية.
ولكن العمل بأهداف التنمية يسمح أيضاً بجني فوائد غير مباشرة من الثقافة، ففي أهداف التنمية المستدامة مصادقة على مفهوم جديد للتنمية، يتجاوز هدف النمو الاقتصادي البحت، ليرسم المستقبل المنشود الذي يرتكز على الشمولية والسلام وديمومة البيئة. وهذه النظرة الجريئة تستوجب تفاعلات خلّاقة تتجاوز المقاربات السطحية والقطاعية التي تعوّدت عليها جلّ الدول منذ عقود.