يقول محمود درويش:

من أنا
هذا سؤال الآخرين ولا جواب له
أنا لغتي أنا
وأنا معلقةٌ .. معلقتان .. عشر
هذه لغتي
أنا لغتي .. أنا ما قالت الكلمات: كن

في هذه الكلمات تتكون صورة الإنسان بوصفه لغةً، وتتجسد له هويته التي يراها ويقرها لنفسه ، وفي حال درويش فإنه الباحث عن معنى وجودي يفقده كل من فقد أرضه الأم وانطلق يبحث عن أم تقوم مقام تلك المفقودة التي تسمى ثقافياً «مسقط الرأس»، وإذا أحس الإنسان أن رأسه معلقٌ في الفراغ لدرجة أن الآخرين يسألونه: من أنت…؟ وهذا هو السؤال الذي لا جواب عليه، لأن له أرضاً استحوذ عليها غيره وله فيها ذاكرة لن يجدها إلا في الكلمات التي تترحل معه في أي بقعة يحل فيها، على أن الكلمات معلقاتٌ لما تزل معلقةً في فضاءات الذاكرة منذ زمن ظهور نصوص المعلقات وتمثيلها لزمن ثقافي وإنساني هي علامته والدليل عليه، وتظل كذلك معلقةً عند درويش لأنه هو نفسه معلقٌ بين الأرض والذاكرة بما أن منطقة الفراغ التي تتراءى أمامه تشبه كلمات القصيدة وهو بسببها شاعر، والشعر يمثل أمه التي تعوضه عن تلك المفقودة التي ستواجه سؤال الهوية ولكونه شاعراً فهو وحده من دون الآخرين من يعرف هويته، مع أن الآخرين لا يعرفون الشاعر إلا بكونه شاعراً وكان الأولى بهم ألا يسألوه عن هويته، وكيف تسأل شاعراً من أنت، في حين هو المعلقات العشر مجتمعةً فيه وبه وهو لغته التي هي هويته المعلنة جهاراً وصدحاً وانتماء.
هذه واحدة من أهم صور اللغة بوصفها هويةً وبوصف الإنسان ذاته كائناً لغويًا أو حيواناً ناطقاً كما هو التعريف الوحيد الذي لم يجد أرسطو أدق منه، واللغة هنا قيمةٌ جوهرية تجعلنا نعرف بعضنا ونميز بعضنا ونفهم بعضنا ومن ثم نكتشف عقولنا بمثل ما تتكشف وجداناتنا. إنها اللغة التي هي جواب الأسئلة حين تواجه الذات سؤالاً حرجاً عن معنى وجودها فتتولى اللغة صناعة اللحظة التي تحسم الإجابة التي لا يفهمها الآخرون، لأن الجواب مذيلٌ بعشر معلقات هي قمة الإجابات عن الهوية التي لا يمكن تأجيلها لأن مواعيدها حاضرة في كل اللحظات.