حوار: إبراهيم الملا
لم يكن الفنان عبدالرحيم سالم يتصوّر وهو في طفولته، أن الانتقال من العادي إلى اللاّمألوف نحو ما هو مغاير واستثنائي، هو انتقال محفوف بالغرابة والاغتراب معاً، وبكمٍّ لا يُحصى من الدهشة الشائكة والجاذبة أيضاً، وكأنه أمام مغامرة غير محسوبة النتائج لاقتحام أحراش وأدغال «الفن»، فكانت المغامرة إشكالية في الصميم، ودونها الكثير من التحديات والصدامات والتضحيات التي لن تكون سوى المعبر التمهيدي والقاسي كذلك، لتلمّس ملامح وتكوينات حرّيته الداخلية، المفعمة بالصخب والجموح والتمرّد، الأمر الذي دفعه لاحقاً لاجتياح الرؤى الخفيّة المختزنة في بواطن اللوحة والمنحوتة والتشكيل الجسدي «الغروتيسكي»، وصولاً إلى منبع الألوان وفتنتها وإغوائها، والتي هيأت بعد ذلك لإغواء مضاعف بين ضفتي اللونين المُحايدين الأبيض والأسود.
من البحرين إلى دبي والشارقة ثم القاهرة، والعودة مجدداً إلى أرض البدايات وإلى منبع الخيالات وجغرافيا الروح، كانت مسالك المعرفة والإشراقات الذهنية تتفرّع وتتطور مع الوقت في الانتقاءات الأسلوبية لعبدالرحيم سالم، وتتألّق أيضاً بين أصابعه، ليصبح بعد ذلك أحد الأسماء المؤثرة في فضاء الفن المحلّي، وأحد أهم الروّاد المؤسسين للحركة التشكيلية بدولة الإمارات، رفقة مجموعة من أصدقائه الفنانين والأدباء والشعراء المهمومين بالتغيير والتنويع والتجديد، ثقافياً واجتماعياً وإنسانياً في فترة ما بعد الطفرة بتحولاتها المدنية والمؤسّساتية الحديثة، وهي الفترة التي حرّضته على تحقيق الصدمة من خلال الفن، بمشاركة المعلّم المفاهيمي الكبير الراحل حسن شريف.
الظلال المبكرة
وفي الحوار التالي مع أحد الركائز والأعمدة القوية والراكزة في منصات الفن التشكيلي بالدولة منذ بداياته وإلى الآن، يرتحل بنا عبدالرحيم سالم إلى الشواهد والإحالات والظلال المبكرة في ذاكرته الشخصية، وفي ذاكرة المكان، خصوصاً عندما كان محُوطاً بالحكايات والأساطير والروايات الشعبية الآسرة في «دلمون» جزيرة الأسرار الحيّة، والخرافة المُجسّدة، وصولاً إلى أرض الإمارات الشاهدة على نضوج تجربته الإبداعية المغايرة، والمحتفية أيضاً بإسهاماته ذات اللغة البصرية المكتنزة بعمق المعنى، والمُنفتحة على اتّساع التأويل.
ويشير سالم في بداية حديثه إلى الفترة الدراسية التي قضاها في البحرين، وتحديداً في المرحلة الثانوية، باعتبارها الفترة التي ظهرت فيها البوادر الأولى لموهبته في الرسم، وكانت ردّات فعل الآخرين والعناصر الخارجية المحيطة به مثل ملاحظات الناقدة الأولى لرسوماته في ذلك الزمن، وهي: جدّته، وثناء المدرسين على أعماله المبكرة، ووفرة المواضيع الفولكلورية القديمة، هي العناصر الملهمة له لسبر طرق وطرائق الفن التشكيلي بإصرار وحماس بالغين، مضيفاً أنه كان يرصد في أعماله حركة الناس ومشاغل السوق وغيرها من الظواهر اللافتة بالنسبة لشخص استقطبت حواسّه كل ما هو مثير للدهشة وللإغواء البصري. إضافة إلى ما وجده في الكتب الدراسية القادمة من مصر التي تصوّر حياة الفلاحين وطبيعة الأرياف، حيث دفعته إلى نقلها إلى الورقة البيضاء بطريقته ورؤيته الخاصة.
المرحلة الفاصلة
وأكّد سالم أن أسرته كان لها دور مهم في تنميته لموهبة الرسم، حيث لم تفرض عليه دراسة التخصصات الجامعية الضامنة لحياة مهنية ناجحة في المستقبل، مثل الهندسة والطب وغيرهما، بل منحته فرصة اختيار التخصص المحبب إليه، والمتمثل في الفنون الجميلة، فكانت مرحلة الدراسة الجامعية بالقاهرة بداية السبعينيات هي المرحلة الفاصلة في حياته وهي التي حدّدت مساره المستقبلي بالانتماء الكامل للفن، خصوصاً بعد دراسته في كلية الفنون الجميلة بجامعة حلوان بالقاهرة لأساسيات التربية الفنية والفنون التشكيلية والفنون التطبيقية، وفيها تعرّف أيضاً على تاريخ الفنون الأوروبية والعربية والإسلامية، والتيارات والأساليب المعاصرة في مجالات التشكيل والنحت والتعبير البصري.
نقل معرفته الفنية
وفي سؤال عن المرحلة التالية التي أعقبت عودته من القاهرة، أوضح سالم أنه جاء وهو محمّل بعدّة أكاديمية ومعرفية رصينة، إضافة إلى ما يمتلكه من خبرة في الممارسة الفنية، جعله يميل إلى فكرة التميّز الفني والاستقلال الأسلوبي، حتى لا يتحول إلى مجرد نسخة مكررة من فنانين آخرين، ومن تجارب واتجاهات محددة، مضيفاً أنه وجد عند عودته الكثير من المجالات الوظيفية المفتوحة أمامه.
ولكن انتهى به المطاف للعمل في وزارة التربية كمدرس للتربية الفنية بمدرسة العروبة في الشارقة، وكانت هي الوظيفة الأنسب له في تلك الفترة -كما أشار- لأنها حققت رغبته في نقل معرفته الفنية للطلبة، وفي ذات الوقت تجعله مشغولاً بنتاجاته الشخصية وتطوير أساليبه في هذا المجال، خصوصاً أنه كان من المشاركين في تفعيل أنشطة مركز الخزف التي أنشأها عبيد الهاجري في مدرسة العروبة عام 1986، والتي أصبح سالم مسؤولاً عنها لاحقاً، لتدريب الكوادر الفنية الشابة وصقل مواهبها.
ذكريات أثيرة
وقال سالم إنه انتقل بعد ذلك للتدريس في مدرسة جمال عبدالناصر بدبي، من المرحلة الابتدائية إلى الصف السادس، ووصف تلك المرحلة بأنها من أجمل المراحل المهنية في حياته التي استمتع فيها بالتدريس، وما زالت انعكاساتها الإيجابية حاضرة إلى اليوم خصوصاً عندما يصادفه العديد من طلبته الذين صاروا كباراً الآن ويستعيدون فيها ذكرياتهم الأثيرة حول تلك الفترة الذهبية.
وأوضح سالم أنه تنقّل بين عدة مناصب في وزارة التربية بالمراحل التالية، حيث عمل بالمنطقة التعليمية في قسم الأنشطة الطلابية، فقد كان مشرفاً على المدرسين وعلى المعارض التي تقيمها الوزارة بالمدارس، ثم عمل بقسم المناهج من أجل وضع رؤية استراتيجية ومستقبلية لمنهج التربية الفنية، حتى تقاعده وتفرغه لإنتاج أعماله الشخصية، والمشاركة في المعارض الجماعية وتنظيم معارضه الفردية.
انتباهات جمالية
وعن سبب انحيازه للفن في بدايات انفتاحه على الحياة من دون الأشكال التعبيرية والأدبية الأخرى، أشار سالم إلى أن الرغبة الداخلية المعززة بالقدرات والإمكانات الذاتية، إضافة إلى الظروف المحيطة والتحولات الاجتماعية، هي التي تحدد مسار المبدع منذ طفولته، وأنه رأى في الرسم الحقل الأنسب لتفريغ ما يعتمل في دواخله من رؤى وأفكار وانتباهات جمالية. وعلى رغم اطلاعه على النتاجات الأدبية القصصية والشعرية في فترة مبكرة، إلا أنه لم يجد نفسه في الكتابة والشعر، بل وجدها في اللوحة أو «الباليتة» ووسط الألوان والخطوط والأبعاد النحتية وغيرها.
وقال سالم: «عند بحثي ودراستي للشخصية السيكوباثية في المجتمعات الخليجية، أو من يطلق عليهم المجانين والمجاذيب الذين كنا نجدهم في الأحياء الشعبية القديمة، اكتشفت أن هؤلاء المجانين كانت لديهم لغتهم التعبيرية الخاصة مثل جمع قصاصات الورق، أو ارتداء ملابسهم بأنماط غرائبية، أو القيام بسلوكيات مكررة خارج ما هو مألوف ومعتاد»، مضيفاً أن «هذه الممارسات على رغم غرابتها تترجم وبشكل حقيقي وصادق ما يدور في أذهانهم ونفسياتهم من هواجس وتخيلات».
البحث عن «مهيرة»
وفي سؤال عن القيمة المتحقّقة للفن في حياته وأعماله، قال سالم إن تجربته في الأساس قائمة على حب الفن والتركيز على إنتاج ما يراه صدى وانعكاساً لتصوراته النفسية والذهنية تجاه الواقع، وتجاه العالم المشخّص والآخر المجرّد، وتجاه الحياة عموماً، ليس من أجل التغيير كفعل قسري ومفروض، ولكن من أجل التغيير كاختيار ينتصر لما هو صوفي وروحاني وجوّاني، يحقق إنسانية الإنسان، في انحيازه الفطري للتعايش والمحبة وتقدير الجمال.
وعن أول معرض شخصي أقامه بعيداً عن المعارض الجماعية، وماذا عَنيَ له هذا المعرض، أشار سالم إلى أن أول معرض فردي له كان بعنوان: «البحث عن مهيرة» وأقيم عام 1991، حيث نفذ كامل لوحات المعرض بقلم الرصاص الذي يبرز جماليات اللونين الأبيض والأسود، مضيفاً أن المعرض كان الحدث الأبرز في مسيرته، لأنه حدّد مساره ومثّل هويته الفنية التي احتفظت بالجذر الأسلوبي رغم تفرعاته وتنوعاته في المعارض الجماعية والفردية اللاحقة، خصوصاً أن ثيمة «مهيرة» كانت هي منطلق وأساس البصمة الأسلوبية التي ميزته عن الفنانين الآخرين.
ترويض الجنون بالفن
وكانت «مهيرة» هي الشخصية الملهمة لتطور أعماله ضمن مسار تصاعدي اختبر فيه العديد من الأنماط التعبيرية والخامات اللونية والتكوينات النحتية، حيث كانت «مهيرة» جزءاً أصيلاً في مرحلة بحثه عن مواضيع الشعوذة والخرافة الشعبية، ومثّلت «مهيرة» بعد ذلك بوّابةً أو مدخلاً لانتمائه ومعايشته وتعاطفه مع الشخصيات المهمّشة في المجتمع، والتي كانت ضحية لرؤية سائدة ومغلوطة أسهمت في زيادة معاناة هذه الشخصيات وتحويلها من ذوات إلى مواضيع، ومن كيانات بشرية مستقلة، إلى مجرد أمثولات للتندّر والسخرية والإقصاء، وبالتالي أراد سالم أن يروّض الجنون بالفن، وأن يزيح عن كاهل «مهيرة» وصمة الجنون والادّعاء المزيّف!
وأضاف سالم أن هذا المعرض نقله من مرحلة التجريب، إلى مرحلة تأكيد التجريب، بعد أن كان يطمح في معارضه الجماعية التمهيدية، إلى إثبات الذات، وإثبات الوجود وسط المشهد التشكيلي، حيث لم يكن الجمهور العام مطلعاً في بدايات تبلور هذا المشهد على نماذج حقيقية وملموسة للأعمال التشكيلية ولأسماء الفنانين الجدد في بواكير هذا المشهد، وفي تكوين ملامحه الأولى.
السكون والحركة
أوضح سالم أن معرضه الفردي الثاني حمل عنوان: «السكون والحركة» عام 1993 متّبعاً أسلوب «الفن المستقبلي»، ومستخدماً ألوان الباستيل في تنفيذ لوحات المعرض، وهي ألوان لم يسبق لأي فنان محلي آخر استخدامها في الرسم -كما أشار- حيث كان السائد هو استخدام ألوان الإكليريك والألوان الزيتية، واستحضر سالم في المعرض الرحلة الثانية في البحث عن شخصية «مهيرة» من خلال الإيحاء والرمز، ورسم هيئتها الجسدية المحاصرة في مساحة ضيّقة، ومن ثم تصوير رغبتها الحثيثة في الخلاص أو التحرر من الكبت الفيزيائي والنفسي الضاغط عليها، فجاءت هذه اللوحات على شكل ضبابي، يشبه الصورة المهزوزة، من أجل استيلاد الحركة من عمق السكون، مستخدماً خطوطاً متشظية وساعية للانطلاق من الحالة الاستاتيكية الثابتة إلى حالة مغايرة تنشد الخروج وكسر حوائط وجدران الفضاء المادي والآخر الافتراضي، مضيفاً أن هذه المرحلة من تجربته جمعت بين طرح قضية «مهيرة»، وطرح قضية الفنان نفسه، إضافة لقضايا المكان والخارج والمجتمع، بشكل متداخل ومتشابك ومتوازن في الوقت ذاته.