وقع المتنبي في نهايات مأساويةٍ تحولت معها حياته إلى حال من الإخفاق والتشظي، وهي نهايات مؤلمة يصدق عليها قوله:
ماذا لقيت من الدنيا وأعجبه
أني بما أنا باكٍ منه محسودُ
وهذا الذي بكى منه المتنبي، هو ما صنع مجده ففي كل مآل له سنجد قصيدةً تسري مع الزمن لتحفظ موقع المتنبي في الذاكرة الثقافية وتغذي المأساة قوةُ فعل الحادثة التي سنراها دوماً في قصيدة لافتة في وجعها وفي إبداعيتها، وأولها نهايته مع سيف الدولة حيث تحولت قصته مع بطله الأسطوري إلى نهاية محزنة جعلته يصرخ «واحر قلباه ممن قلبه شبمُ»، والسبب حسب حبكة النص يكمن في سيف الدولة وليس في الشاعر، فالشاعر مخلص كما يرى نفسه وخالٍ من العيب كما يظن، ولكن صاحبه يطلب له العيب ويلتمس ذلك، ولذا عاتبه الشاعر بقوله:
«كم تطلبون لنا عيباً فيعجزكم»، ثم زاد بقوله:
ما أبعد العيب والنقصان عن شرفي
أنا الثريا وذان الشيب والهرمُ
والمتنبي لا يفعل شيئاً، سوى أن يزيد من مأساته فهو يعظم مقامه في لغة تؤدي لتقليل مقام صاحبه الذي ظهر في النص، وكأنه لا يميز بين الشحم والورم، ولا يقدر محبة من يحبه ولا يلتفت لشعر من هو الأصل وغيره مجرد صدى له والمتنبي وحده الأصل وغيره من الشعراء زعانف.
وهذه كلها مما يراه الكل ويعمى عنه سيف الدولة «سيعلم الجمع ممن ضم مجلسنا / بأنني خير من سارت به قدمُ»، وهذا من تفضيل الذات على الجميع بمن فيهم صاحب المجلس، كما أن قلب صاحب المجلس بارد في حين يتحرق قلب الشاعر، ولا يتردد أن يجعل صاحبه هو الخاسر من الفراق بينهما:
إذا ترحلت عن قوم وقد قدروا ........... ألا تفارقهم فالراحلون همُ
ثم يشتبك المتنبي برحلته الثانية التي ستؤول لنهاية أسوأ من سابقتها، وسيقع فيها بألم الانفصال، حيث سيجد نفسه مع كافور الذي سيكون معه في حال تراجيدية صورها بقوله:
ما كنت أحسبني أحيا إلى زمن
يسيء لي فيه كلب وهو محمودُ
وهو زمن اكفهر عليه وعزله عن أحبته وحول مكانه لمنفى روحي ووجداني وتمنى لو استعادت الأرض دورتها وقلبت اتجاه الجغرافيا لتفصل البيداء بينه وبين كافور:
اما الأحبة فالبيداء دونهمُ ............. فليت دونك بِيداً دونها بيدُ
وهذا ما فعله المتنبي، حيث احتمى بالبيداء من سطوة كافور وجعل بينه وبين كافور بِيداً دونها بِيدُ، ثم عاد لموطنه الأصل العراق، ولكنه لم يجد في العراق صاحباً مثل سيف الدولة ولا عدواً مثل كافور، وهنا أصبحت حياته حياة استقرار بليد يخلو من المغامرة والحيوية، ولذا اتجه شرقاً نحو خراسان، ولكنه لم يجد سعادة روحه هناك ودخل في غربة روحية وجسدية ولغوية، رغم جمال المكان وكرم صاحب المكان «ولكن الفتى العربي فيها / غريبُ الوجه واليد واللسان»، ومن هنا عاد في رحلة لليأس ونهاية الآمال، وسار غير متوجهٍ لشيء ولكنه هاربٌ من كل شيء، وعبر طريق هذه العودة اليائسة كان حتفه بانتظاره فمات على وقع بيته الشعري القاتل الذي كتبه مصيراً على نفسه ونهايةً لترحلاته ومع عبارته المصيرية وقوله «الليل والخيل البيداء تعرفني»، ولكن الليل والبيداء غدرت به فقد كان الليل وكانت البيداء معاً تتربصان به في مظان الطريق وكانت آخر النهايات لبطل تراجيدي قتله شعره، في خاتمة كتبها بنفسه:
ماذا لقيت من الدنيا وأعجبه
أني بما أنا باكٍ منه محسود