إبراهيم الملا (الشارقة)

تحتفظ ذاكرة الفن التشكيلي في الإمارات بالعديد من المحطات الفنية والانتباهات الفكرية المؤدية إلى التغيير المنهجي والتطور الأسلوبي لدى مجموعة من الفنانين الروّاد، الذين وضعوا اللبنات التأسيسية للفنون التعبيرية والبصرية بالمكان، ويأتي الفنان المخضرم عبدالرحيم سالم ضمن الأسماء المؤثرة في السياق التصاعدي للأعمال الفنية المتنوعة مثل: النحت، والرسم، والأداء الجسدي «البيرفورمانس» المستند إلى أربعة عناصر أساسية، هي: الوقت، والمساحة، وجسد المؤدي وطريقة تفاعله مع الفكرة، وأخيراً: العلاقة بين المؤدي والجمهور.
قدم عبدالرحيم سالم في المرحلة الوسيطة من تجربته، معرض «أبيض وأسود» المعبّر عن اقتراحات نابعة من مشروعه المعني باستثمار الطاقة الساكنة في الجسد الإنساني، وهي اقتراحات تحتفي بالتجريد، وتتشابك فيها الخطوط الحادّة للحركة في بعدها الافتراضي، تماماً في اللحظة التي تسبق انتقال الجسد من السكون المطلق، إلى الهيجان العارم، فيما يشبه التصوّر التنبؤي أو الصوفي لمادة «الروح» العصية على القبض والتفسير.
وقد باح المعرض الذي أقيم أواسط الألفية المنصرمة عن الجماليات القصوى للتناقض، وعن التداخلات المرهفة بين ما هو متنافر ومتعارض ومنتهك اصطلاحياً، وكانت العلاقات المتضادة بين المرئي والمتواري، أشبه باختراع المنفى داخل الإقامة ذاتها، منفى بلا تزيينات لونية مقحمة، أو زخرفة مقصودة، وحِيَل فضفاضة، وهكذا كانت تأخذنا لوحات المعرض في رحلة ضارية بين ضفتي الأبيض والأسود، فباتت المساحة المأهولة بالذهاب والإياب، هي المساحة الأكثر إبهاماً وتشظيّاً، حيث يتيه التّمييز، ويصبح التعيين ضرباً من المستحيل. تقودك لوحات المعرض نحو تخوم حادة وصارمة كي تكشف لك عن قلق الجسد الفاني في مواجهة الزمن، هذا الجسد الذي صار يمارس عنفاً يشبه المقاومة لحماية الكينونة المُهَدّدة بالزوال، وبالتالي الوصول لمرحلة الاستقلال المنزوع من التشيُّؤ الذي يقابل بمعنى أو بآخر التحنّط أو التخشّب أو الحيادية المطلقة للثبات.
تخلّص عبدالرحيم سالم في هذه المرحلة من استدعاء: «مهيرة» -الشخصية الملهمة بتجلياتها وعذاباتها في الذاكرة الشعبية المحلية- كي يلج البوابات الخلفية لحنينه المشوّش تجاه الأنثى الغائبة في أحراش كابوسية، والمرتحلة في أدغال مسوّرة بالدخان والرماد.هجر الفنان هنا ألوان «الباستيل» ومداراتها المفعمة بالرقص الإيحائي المنسجم مع انتشاء البصيرة وعوائدها المتفوقة على الجانب الغريزي الصِّرْف، وهجر أيضاً ذاك البهاء البصري في لوحاته الزيتية السابقة.
وكانت الاجتراحات الحاضرة في هذه المرحلة أكثر ميلاً للجانب الميتافوري، بعد أن أمعن سالم من خلال أعماله السابقة في تشريح الجسد المقصّي والمسحور لمهيرة، فانقاد هذه المرّة لمسارات غائرة في اللاوعي، تتعلق بدمج العوالم الغامضة لطقس: «الزار» مع الفعل التشكيلي للجسد، كنوع من تعلية هذا الطقس باتجاه التفعيل الدرامي والتعبيري لظلال «الفن الأدائي»، ولتنويعاته (السمعية/ البصرية) المفتوحة أبداً على دهشة السؤال وصدمة التأويل.
لم يشأ عبدالرحيم سالم في لوحات (أبيض وأسود) أن يزجّ بشخصية مهيرة في تجربته الانتقالية هذه، ولم يختر لها الحضور إلّا من خلال فضاء لوني يتداخل فيه: «الإنوجاد» مع «التلاشي»، و«الانكشاف» مع «التخفّي»، وينبع التحدي في تعامل الفنان مع اللونين الأبيض والأسود من الاغتراب الشرس الذي تفرضه الكيانات المعزولة عن بعضها قسراً، إنه الوضوح المُهْلِك الذي يقول الحالة ويعبّر عنها بانفعال قاسٍ وصارمٍ، فلا ألوان هنا للتورية أو الاستنجاد بتزويق شكلي أو بلاغة بصرية، فاللون هنا محدّد، والخطوط فضّاحة، ولا مجال للاختفاء والتماهي.
اعتمد سالم في تشكيل خطوطه القاطعة مثل شيفرة الموس على أسلوب: «المالاتوف» القائم على طباعة نسخة واحدة من اللوحة، ووضع كمية محسوبة من الحبر والضغط عليها بدرجات معيّنة كي تتوزع على المساحة المُخَصّصة، ومن ثم التحكّم في حجم الخطوط السوداء من خلال وضع البودرة البيضاء لاحقاً لفصل وتنحية الحبر قبل أن يجفّ، وصولاً إلى ترجمة حركة الجسد في الزمن، وبالتالي تثبيت هذه اللحظة الغرائبية، والتي يتحوّل فيها الجسد إلى ذرات خفيفة وإلى غبار شبحي، من أثر التسارع البدني أو الحركة الفجائية.