د. عز الدين عناية
على مدى عهود ظلّت مناهج البحث في العلوم الدينية ملتصقة ببنية المعارف التي تطوّرت في أحضان المؤسسات العلمية عبر أرجاء العالم الإسلامي. وقد غلب على مناهج هذه العلوم عنصر بارز، تمثّل في الدراسة الداخلية للدين، طلباً للفلاح في الدنيا والنجاة في الآخرة. وكان فيها «عالم الدين» ينظر في الكتاب والسنة من خلال استبطان الإيمان الإسلامي، وينحت المعارف ويصوغها وفق ارتباط عقدي بالقضايا المطروحة. وفي واقع الأمر بقيت العلوم الدينية بحمولتها «اللاهوتية» ميزة مجمل الأديان التاريخية، إلى مطلع عصر الأنوار، الذي ستشهد معه مناهج الدراسات الدينية تحولات لافتة في النظر إلى الدين والكائن المتديّن.
اليوم، كما نعرف، لم تَعد دراسة دين الإسلام حكراً على المسلمين، وقد باتت قضاياه، بأبعادها العقدية والفقهية والمجتمعية والسياسية أيضاً حاضرةً في كبريات الجامعات والمراكز البحثية في العالم. وهذا في حدّ ذاته يمثّل تحدّياً لنا في الداخل، بما يطرح علينا تساؤلات: وفق أي صيغة وضمن أي منهج يجري عرض الدين وفهمه في الزمن المعولم؟ وكيف يتسنّى الإلمام بما يقوله الآخرون في ديننا، وفي الدين بشكل عام؟
فعلى مستوى عام، شهدت دراسة الدين تحولات ملحوظة، منذ أن احتكت بالمناهج الحديثة، ولم تبق العلوم الإسلامية، ووقائع الإسلام، بمنأى عن هذا التحول والتأثر. ويمكن الحديث عن بداية هذا التحول لَديْنا مع أوائل المستشرقين الذين انكبوا على تناول التراث والواقع الإسلاميين، إلى أن بلغنا في الفترة الراهنة جحافل المتابعين للإسلام المعاصر، من خبراء ومتخصّصين. فلم تبق دراسة الإسلام مغلَقة على سردياتها التقليدية، بل بدأ الأمر يشهد منذ أربعة عقود تحولات في قراءة تاريخ الإسلام ومصادر الدين، فضلاً عن مراجعة بنى العلوم الإسلامية ومنطقيتها، من خلال توظيف المناهج الحديثة. إلى حين بدأنا نعرف خطين أو لنقل مقاربتين في المجال العربي تحديداً، لقراءة الموروث الديني والواقع الديني: إحداهما لا تزال على وفاء صريح للمناهج التقليدية، والأخرى ذات طابع تحليلي نقدي.
الاستشراق والإسلاميات
والتساؤل المطروح لدينا هو: هل تفي مناهج العلوم الكلاسيكية بدراسة الإسلام والواقع الإسلامي في الوقت الحاضر؟ وهل تقدر تلك العلوم، التي هي أدوات معرفية تاريخية، على أن تعرض معارف بوسع المسلم وغير المسلم القبول بمنطقيتها وصوابيتها؟
ومن ثَمّ فنحن أمام مسألة جادة هي: كيف نستدعي مناهج دراسة الظواهر الدينية، ولا نقول توظيفها أو أسْلمتها كما يروق للبعض، بل استيعابها لإثراء مناهجنا الكلاسيكية، وقراءة موروثنا القداسي، وفهم واقعنا السوسيو-ديني في ضوئها.
فالملاحظ أنّ تدريسَ العلوم الإسلامية في جامعاتنا العريقة والمحدثة، قد ظلّ في جوهره كلاسيكياً، ولم يشهد تحولاً لافتاً، أي إنه ظلّ مرتبطاً بالتأصيلات والتفصيلات التي رافقت نشأة تلك العلوم وتطورها. ولكن ممّا يلفت النظر في اعتماد المناهج الكلاسيكية لدينا، غياب النظر، والتحليل، والمتابعة لما يُنتج خارج السياق الإسلامي، ولا سيما في حقلي الاستشراق والإسلاميات سوى بشكل ضئيل، نظراً لنقص الترجمة، وكذلك لتعويل دارسي العلوم الشرعية على ما يُكتب بالعربية تحديداً. وهل يكفي ذلك في عالم متشابك ومتقارب ومتزاحم؟ بدت الضرورة ملحّة إلى إثراء الدراسات بقراءات عقلانية ونقدية، تستجيب إلى حاجة الثقافة الجديدة.
آفاق الحوار
والحال أن ما ألمحنا إليه من مناهج مستجدّة يملي العودة إلى أصول الأشياء لفهم الانزياحات والقطائع الحاصلة. فلو تمعّنّا في تاريخية انفصال المناهج المنعوتة بالعلمية عن المنهج اللاهوتي، ضمن السياق الغربي والواقع الفرنسي تحديداً، نلحظ بداية حصول ذلك الانفصال في أعقاب الثورة الفرنسية، حين أُغلقت كلّيات اللاهوت التابعة للدولة (1885) وأُنشئ بدلاً منها قسم العلوم الدينية في المدرسة التطبيقية للدراسات العليا. وجاء تدريس «تاريخ الأديان» في فرنسا، في بداية الصراع الكَنَسي اللائكي، بوصفه العلم الكفيل بدراسة الدين الذي يسمو فوق المعتقدات، وكتعبير عن قطيعة منهجية مع تدريس اللاهوت في الجامعة الفرنسية.
بين الاستيعاب والاستبعاد
ومع تطور المباحث العلمية في دراسة الدين، أثيرت مراجعات في علم الأديان، تمحورت بالأساس حول طبيعة منهج هذا العلم. أمْلت العودةَ إلى دمج مبحث اللاهوت ومبحث فلسفة الدين. ويبرّر الإيطالي جيوفاني فيلورامو إدراج علم اللاهوت وفلسفة الدين ضمن مبحث علم الأديان بقوله: «إنّ الدراسة العلمية للدين اليوم لا يمكن أن تعتمد الاستبعاد، بل ينبغي أن تأخذ بعين الاعتبار المقاربتين الداخلية والخارجية للدين. فالدين واقعة بالغة التعقيد ولا يمكن الادّعاء اليوم بأن مبحثاً بعينه في وسعه أن يستوعب الدين، بما يجعل الدراسة العلمية للدين «استيعابية» لا «استبعادية».
الإسلاميات والمنهج الأفقي
حَريّ في هذا السياق أن نشيرَ إلى أنّ مصطلحات «العلوم الدينية»، و«الدراسات الإسلامية»، و«الدراسات الدينية»، تختلف مضامينها وتتغير دلالاتها بين العرب والغربيين. فقد أَطلّ مصطلح «الدراسات الدينية»(Religious studies)، الذي بات نعتاً رائجاً في الاستعمال العلمي الإنجليزي لحقل معرفي، أواخر ستينيات القرن الماضي. وهو يعكس وجهاً من وجوه التحولات في دراسة الدين، كونه مبحثاً يضمّ مزيجاً من العناصر: الدراسات التاريخية، والدراسات المقارنة، والعلوم الاجتماعية، فضلاً عن فلسفة الدين. وقد دارت قضاياه حول جملة من الأسئلة على غرار: ما معنى الدين؟ وكيف يتشكل؟ وكيف يمكن تصنيفه؟ وما هي وظيفته؟ وطغى على مشاغل «الدراسات الدينية» في الأوساط الأميركية نزوعٌ إلى معالجة القضايا الأفقية في الدين، أي تناول قضايا الدين في صلتها بالوقائع المعاصرة والتحولات الاجتماعية.
الإيمان والعقلنة
وليس حقلُ «علم الإسلاميات» بعيداً عن تلك الأجواء التي ميّزت اهتمامات «الدراسات الدينية». فهو حشدٌ من مقاربات متنوّعة مهتمّة بالوقائع الدينية الإسلامية. ولو دقّقنا النظر في اهتمامات «علم الإسلاميات» نلحظ تركّزَ محور اهتمامه على المعيش من الدين أكثر منه على الأنطولوجي والمفارق. بما يعني التحول مع الدراسات الإسلامية من الاهتمام العمودي بالدين والمتدين إلى الاهتمام الأفقي، والانزياح باتجاه الانشغال بالإنساني في مختلف أبعاده النفسية والفلسفية والتاريخية. ليبقى ما يواجه حقل الدراسات الإسلامية في العالم العربي وهو البحث عن صيغة تمزج بين «الإيمان والعقلنة».
وفي ظل هذه القطائع وهذه التحولات، تبقى المسألة الملحة في الواقع العربي متمثّلة في عنصرين: الأول وهو كيف نقلّص الفجوة المنهجية بين دراساتنا الكلاسيكية والمناهج الحديثة؟ والثاني وهو كيف نتعاطى مع الطروحات الخارجية في وعي الدين؟
ولو جئنا إلى مناهج العلوم الإسلامية، وعلى ما قدّمته من إجابة عقدية وفقهية ونظرة للوجود والعالم، فإننا نلحظ أنّ التقارب مع القضايا الراهنة في الواقع الحالي قد بات يعوزها.
نتجدّد أو نتبدّد
أخيراً، إنّ التخوفَ الذي ساد في عهود سابقة من المناهج العلمية في كليات اللاهوت الغربية، قد تراجع في العقود الأخيرة بشكل كبير إلى حدّ التواري تقريباً. وبات الباحث والدارس في اللاهوت، أي ما يوازي دارس العلوم الشرعية لدينا، يتلقى ضمن تكوينه المناهجَ الحديثةَ، بما يعني الانفتاح على مقاربتين وما يتضمّنانه من استعانة بالعلوم الدينية الحديثة (تاريخ الأديان، وعلم الاجتماع الديني، والأنثروبولوجيا الدينية...). وما نطمح إليه في الأوساط الأكاديمية العربية، هو «التعايش الخلّاق» بين الحقلين، في دراسة الدين لا الفصل أو التصارع، فأمامنا خيار إما أن نتجدّد أو نتبدّد، وأن نتبدّد وهو ما لا نريده لديننا ولا لأنفسنا.
* النص مداخلة ألقيت في مؤتمر «الدراسات الإسلامية في الجامعات» المنعقد بتاريخ 22–24 نوفمبر 2022 في جامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية في أبوظبي.