إبراهيم الملا (الشارقة)

كيف يمكن للقصيدة أن تقود الباحثين عن جذورهم إلى مدَيات بصرية واختبارات روحية تشتبك برهافة بالغة مع الفصاحة والبلاغة وانتشاءات اللغة، وهل يمكن للشعر بجاذبيته القصوى وحضوره الطاغي أن يحتوي الدهشة وهي ما زالت في طور التشكّل والتفتّح والتجلّي، كي تصنع تالياً الأفق المعرفي الحاضن لاستعادات الذاكرة وانتباهات الحنين؟
هذه الأسئلة وغيرها من الملامسات المرتبطة بالهوية المكانية والخصوصية التراثية، كانت حاضرة في صلب السينوغرافيا الغنائية والغرائبية للعرض المغربي: «الخيمة» الذي عُرض مؤخراً ضمن مهرجان الشارقة للمسرح الصحراوي.
والعرض من إنتاج جمعية أنفاس للمسرح والثقافة، ومن تأليف: عالي مسدور، وإعداد وإخراج: أمين ناسور، وشارك في الجانب الأدائي للعرض كلٌ من: قدس جندول، وعلية طوير، وسلم بلال، وسهام لحلو، وسعيد الوغيري، إضافة للمجاميع التي كان لها دور مؤثر في تفعيل الجوانب التعبيرية والجمالية والموسيقية وسط الانتقالات المشهدية بين اللوحات الغنائية والرقصات الإيمائية المفعمة بالرموز والإحالات المرتبطة أساساً بتحولات القصة وتفرعاتها.
تتناول مسرحية: «الخيمة» حكاية الفتاة: «مغلاها» الشابة العربية من الصحراء المغربية، والباحثة مع صاحبتها: «تيبة» عن خيمة الأجداد المسماة: «أم الفركان»، وذلك بعد عودة «مغلاها» من رحلة اغتراب طويلة وغياب قسري عن أرض الطفولة وموطن الأسلاف، حيث اعتمدت «مغلاها» أثناء بحثها عن الخيمة على القصائد والأحجيات التي تركها لها جدّها كوصية مبهمة، تتطلب نوعاً من الفطنة والحنكة والذكاء لاستجلاء غوامض الوصية، وكيف تميط اللثام بالتالي عن جانب إنساني ثري تركته «مغلاها» خلفها، وحان الوقت كي تعثر على العلامات المشيرة إلى موطن: «أبناء الصحراء ورعاة النجوم» كما وصفها الجدّ.

مفاتيح دلالية
وتشرع المسرحية في طرح مفاتيحها الدلالية من خلال مجاميع تهبط من فوق التلال وهي تحمل معها الفوانيس المضيئة، في إشارة استهلالية إلى رغبة المخرج في تفكيك الجانب الملغز للعرض مبكراً، ولكن بشكل متدرّج، تتساقط فيه أحجار الغموض واحدة تلو الأخرى، بالتوازي مع المسار التصاعدي للحكاية، وكانت الأغاني والرقصات التراثية المغربية في افتتاح كل مشهد جديد بمثابة بشارات سمعية وبصرية لكل من «مغلاها» وصاحبتها: «تيبة» حتى تستمرا في حلّ الألغاز المبثوثة بالقصائد وصولاً إلى الغاية الكبرى وهي العثور على خيمة الأجداد: «أم الفركان».
واحتشد عرض «الخيمة» بالعديد من الثيمات المنتمية لبيئة الصحراء شكلاً وموضوعاً، حيث كانت الإبل تذرع ساحة العرض المكتنزة بالرمال، وكانت الخيول تمرح وسط هذا البهاء المشهدي، المطرّز بإضاءة معبّرة بدقة عن سحر الكثبان وجلال البراري، وعن اقتران اللغة بجماليات المكان وأصدائه وإلهاماته.
ومن جانب آخر، كانت مفردات الراوي ونوعية الحوار بين الفتاة «مغلاها» والأشخاص الغرائبيين الذين صادفتهم في طريق بحثها عن الخيمة، هي مفردات وحوارات آسرة وتنطوي على صور وتعابير أخّاذة لها من قوة المعنى قسمة ومن عمق الفكرة نصيب، ومن هذه الحوارات الشعرية ما يلي: «لا يتيه الحاذق العارف، لأنه يطلق ساقيه بعيداً، يحلّق مع النسر، نسرٌ ينشر أجنحته في المدى، ويرى الصحراء وهي توغل في البعيد، يستمع لنسيم الليل وهو يوقظ القصيدة».
وفي عبارة أخرى يقول الراوي المجسّد لشخصية «شلتات»: «الحكاية المتخيّلة أنا، وأنا الحكاية الواقعية، ومنكم من يوظف حكايته للسخرية والمكر والخديعة، ومنكم من يستعمل حكايات للتسلية، وحكايات للموعظة، وهكذا يلتقي نصفاي في مساحة واحدة»، بينما يصف الخيمة المنشودة والراكزة في ذهن «مغلاها» وصديقتها «تيبة» قائلاً: «الخيمة مجرّد أركان وزوايا، لكنها محطّ أنظار الجميع، الخيمة لم تعد موجودة الآن سوى في الذاكرة، في نثر حب بالخيام المزيّنة لكثبان الصحراء، الخيمة جزء منكما ولابد أنكما تحبانها، تلك الخيمة خيمتنا جميعاً، الخيمة التي كانت يوماً ما وطناً، وصارت اليوم ذاكرة».

الترميز والتعيين
وبهذه العبارات الموزعة على ضفتي التلميح والتوضيح، والتشكيك والتوكيد، والترميز والتعيين، كشف العرض عن غاية عنوانه والهدف منه، باعتباره عنواناً ينطلق من الخاص إلى العام، ومن الذات إلى الآخر، وهكذا دواليك، حتى تكون الخيمة مظلة مشرعة على التأويلات كلها، تنطلق من ضيق العبارة إلى شساعة المعنى، وتقول بصوت صارخ إن الوطن ليس مجرد مكان محايد بل هو الوجهة الأولى والأخيرة لأرواح الأجداد وذاكرة الآباء وراهن الأبناء.