إبراهيم الملا (الشارقة)

انطلاقاً من حكاية شعبية متوارثة في السرديات الشفهية بموريتانيا، تتشكّل أولى الملامح المشهدية في مسرحية «منت البار» من خلال تكويناتٍ مُستَلّةٍ من عمق الذاكرة الصحراوية.

الغيوم البيضاء
يبدأ الجزء الاستهلالي للمسرحية التي عرضت مؤخراً بمهرجان الشارقة للمسرح الصحراوي، بتناول طقوس الاستسقاء والدعاء كي تهلّ بشائر المطر وتروي سكان قبيلة «المنارة» الذين هلك حرثهم وتضررت مواشيهم وإبلهم وخيولهم من القحط وشحّ المياه، ويلجأ مخرج العرض «سلي عبدالفتاح» إلى حيلة ذكية بتحويل أجساد الممثلين إلى ما يشبه الغيوم البيضاء المتحركة وكأن القيمة الروحية للدعاء باتت متحقّقة من شدة الحاجة وإلحاح الطلب، وهو ما يحدث فعلاً بعد أيام قليلة عندما تهطل الأمطار بغزارة. ووسط هذا الكرنفال الاحتفالي بميلاد الحياة في الطبيعة المقفرة، ينعطف المسار السردي للعرض نحو فضاء حكائي مختلف ومتشعب، يبدأ مع احتفاء أفراد القبيلة بـ«محمد البارّ» الورع والتقي وصاحب الأخلاق الرفيعة الذي كان وجوده في القبيلة سبباً في حلول البركة عليها، وزيادة الأمن والاطمئنان فيها.

تشابك الخيوط 
أما عنوان المسرحية وهو «منت البارّ»، فيشير إلى المنطوق اللفظي الشعبي الموريتاني لكلمة (بنت) والمقصود بها هنا الفتاة عزيزة ابنة محمد البارّ التي ترث صفات والدها صاحب الحظوة والخلق الكريم، إضافة لتمتعها بالجمال وبموهبة نظم القصائد المرهفة واللافتة الشبيهة بشخصيتها، الأمر الذي يدفع ثلاثة أشخاص من شبان القبيلة للتنافس على كسب رضاها ورضا والدها حتى يتوجوا هذا الرضا بالزواج من أكثر فتيات القبيلة نبلاً وتميزاً. ومن أجلها باتوا يتبارزون شعراً وفروسية وتضحية وذوداً عن الحمى، خصوصاً بعد أن تقوم عصابة من قطاع الطرق التي يقودها شخص يكنّى بـ«الضبع» بالإغارة على القبيلة ونهب ممتلكاتها، والأهم من ذلك الظفر بالفتاة عزيزة «منت البار» بسبب ذيوع اسمها وشهرتها بين قبائل المنطقة. ومن هنا ينشأ الصراع المحموم والمحتدم بين الأخيار والأشرار، ويصل الأمر للمجابهة المباشرة بين الطرفين، وتبدأ الحرب التي يطلق عليها أهل الصحراء «الكريهة» نظراً لما تخلّفه من مصائب وويلات وخسارات، ووسط غبار المعركة وتصادم الفرسان وهلع الأطفال والنساء، ترجح الكفة لصالح أبطال قبيلة «المنارة» وينهزم قطاع الطرق بعد مقتل قائدهم «الضبع».

تأثير تفاعلي
ومسرحية «منت البار» من إنتاج: فرقة إحياء للفنون الركحية بموريتانيا، وشارك في الجانب الأدائي كل من: سلي سليم، والمختار الشيخ مراد، وعيشة موسى، ومحمد سويلم، ومريم محمد الصغير، وفاطمة ممادي، والنبوي البخاري، ومحمد فال بلال، وعالي سالم، وحمادي عبدالله، واحتشدت المسرحية بالقصائد النبطية والفصيحة التي اشتهر بها بلد المليون شاعر، وكان لإلقاء القصائد في ثنايا الحبكة الرئيسة للعرض أثر ملحوظ في تماسك مكوناته المشهدية المترجمة لحالات متناوبة بين الهدوء وقت السلم، والصخب وقت المعركة، وتمتعت الأغاني التراثية والموسيقا الفلكلورية بحضور قوي وتأثير تفاعلي مع عناصر الفرجة المسرحية الأخرى.