إبراهيم الملا (الشارقة)

ضمن فعاليات اليوم الثالث من مهرجان المسرح الصحراوي المقام ببادية «الكهيف» في الشارقة، قدمت فرقة «مختبر فنون الأداء» السورية عرضها المسرحي بعنوان «رثاء» من إخراج وتأليف سامر عمران، وضم طاقم التمثيل كلاً من: ربا الحلبي، ونور جبيلي، ورولان زكريا، وحسام دلال، ويمامة جبيلي، وإيهاب إلياس.
واحتشد عرض «رثاء» بثيمات البادية السورية المتقاطعة مع البيئة الريفية وما يعتمل فيهما من روايات متوارثة حول عشاق جرفتهم الوقائع والظروف نحو تخوم شخصية مهلكة، وخسارات ذاتية انتقلت بهم من بدايات الملهاة إلى خواتيم المأساة، وتحوّلت أمنياتهم الوردية في إرهاصاتها المبكرة، إلى أشواك جارحة ونتوءات دامية، تماماً في النقطة التي تلتقي فيها ذروة الحلم مع صدمة الواقع، وصولاً للتحوّل العنيف، والانعطافة الصارخة في مجريات القصة ومساراتها.


الفرجة المفتوحة
واستند العرض على سينوغرافيا الفرجة المفتوحة، وكانت الخلفية المكتملة بالديكورات الطبيعية للصحراء هي المفتاح الرئيسي للدخول إلى مناخات المسرحية، باعتبارها منفذاً تجسيدياً لتحويل الحكاية الشفهية المطبوعة في الذاكرة الجمعية، إلى ديناميكا مشهدية امتزج فيها صوت الراوي مع العزف الشعبي البدوي، ومع القصائد المؤثرة للعاشقين «نجمة» و«زاهد» أثناء اندلاع شرارة الحب بينهما، عندما رأى حبيبته لأول مرة، مثل «نجمة متألقة ووضّاءة» وإصرارهما بالتالي على تتويج هذا الحب بالزواج، وتعاهدا من أجل تحقيق ذلك إلى أقصى ما يمكن تقديمه من تضحيات، حتى لو استدعى الأمر التضحية بالنفس، لكي يبقى الوعد بينهما ممهوراً بالدم.
ووسط ثلاث خيام موزعة على وسط وجانبي الساحة الرملية المقابلة لمنصة العرض، تشكّلت صورة الحب العذري بأبهى تجلياتها من خلال الأشعار التي كان يخطّها الشاعر «زاهد بن عويّن» على الرمال كي تقرأها حبيبته، ثم تمسحها، وتعيد الكتابة له بذات الصياغة الشعرية، حتى يقرأها العاشق ويمسحها بدوره، وكأنهما يتبادلان رسائل سرية، تتوهج في القلب؛ لأنها بنت اللحظة الرومانسية اللاهبة، وعلى رغم غياب ملامح القصائد المتلاشية مع الرمال، إلا أن أثرها كان يتنامى ويتصاعد درامياً، عندما يقرر العاشق «زاهد» السفر خارج حدود البادية لزيادة موارده المالية من خلال التجارة، والعودة لاحقاً كي يقترن بحبيبته من خلال الزواج، ولكن يبدأ الشرخ الأول لهذه العلاقة بالتشكل والنضوج، عندما يقرر والد «نجمة» تزويجها قسراً من ابن عمها بعد اكتشافه لعلاقة الحب بين ابنته وبين زاهد، والتي تعدّ في عرف القبيلة، عملاً ممنوعاً وخارج التقاليد المتوارثة، فكان الفصل بين العاشقين هو العقاب الأنسب لهكذا «جريمة» افتراضية، قبل أن تتفاقم وتتحول إلى وصمة عار.


القصيدة الأخيرة
وكي تتخلص من هذا العبء النفسي الكبير، واحتفاظاً منها بعهد «الدم» الذي أبرمته مع «زاهد»، تقرّر نجمة ربط ملابسها بالحجارة الثقيلة ورمي نفسها في النهر، حيث يشهد الحادثة أحد الرعاة القريبين من المكان، فيخبر زاهد بعد عودته من السفر بمجريات المشهد المأساوي، والذي يلقي بظلاله الثقيلة ومدَياته الشائكة على روح وجسد زاهد، فيصبح اسمه ترجماناً لحاله، حيث يعتزل الناس، وتتكاثر في جسده الأوجاع الظاهرة والخفيّة، وتتحول قصائده السابقة الجذلى بعوالم العشق وفضاءات البهجة، إلى قصائد ملطخة بعتمة الحزن، وظلمة الرثاء، فيكتب قصيدته الأخيرة بالنار ويرمي نفسه وسطها، في نهاية دراماتيكية جسّدت وبقوة ملامح العشق المبتور في مجتمعات يكتنز فيها المنظور الاجتماعي الأحادي والمغلق، والذي لا يتيح فرصة للتعبير بصوت عالٍ عن مكامن الجمال والإبداع بين طرفين اختارا الانحياز للفرح، ولكن الظروف القاسية والمعاكسة جعلتهما يستسلمان لواقع مهيمن وطاغ، لا يمكن الفكاك من سطوته أو الخلاص من جبروته.