الفاهم محمد
اختتمت في شرم الشيخ منذ أيام، الفعاليات السنوية التي تشرف عليها هيئة الأمم المتحدة، والخاصة بالتغيرات المناخية، أو ما يصطلح عليه بـ cop 27. وامتدت الأنشطة من 6 إلى غاية 18 من الشهر الجاري. لقد اختارت الدولة المضيفة وهي مصر هذه السنة، توصيفاً يحمل دلالة كبيرة وهو:«اللحظة الفارقة»، وذلك لكي تشير إلى المنعطف الحضاري الكبير الذي تعبره البشرية، والذي يقتضي بالضرورة اتخاذ إجراءات عاجلة، من أجل وضع حد للاحتباس الحراري، والتغيرات المناخية. نفس الطموح يدفع كذلك هيئة الأمم المتحدة، التي تطالب بضرورة الوصول إلى «قرار تاريخي».
على مدار عقود من الزمن، بدأت من كوب برلين 1995 كانت الرغبة بأهمية مواجهة التحديات المناخية حاضرة دوماً، رغم أنها تصطدم بتعدد الاختلافات في وجهات النظر بين الفاعلين المتدخلين، سواء كانوا حكومات أو شركات، أو هيأت المجتمع المدني.
لا حاجة إلى التذكير إلى أن هذه السنة سجل مقياس الحرارة درجات غير مسبوقة. فالعديد من الغابات عبر العالم عرفت حرائق مهولة، سواء في أوروبا أو أفريقيا أو أميركا الشمالية. ظواهر بيئية أخرى أثارت الرعب، وعلى رأسها جفاف الأنهار التاريخية لأوروبا، مثل نهر الراين بألمانيا واللوار بفرنسا ونهر بو في إيطاليا، وغيرها من الأنهار التي بات بإمكان الساكنة لأول مرة في التاريخ، عبورها بإقدام حافية. هذه فقط عينة صغيرة من علامات الكارثة الكبرى التي تنتظرنا، إذا واصلنا التلكؤ في وضع حد للاحتباس الحراري. فهل سنتمكن فعلاً من إنقاذ الأرض؟ هل بإمكاننا وضع اختلافاتنا السياسية والاقتصادية جانباً، من أجل اعتناق وجهة نظر تؤمن ببيئة نظيفة ومستدامة؟
نقطة اللاعودة
يقول علماء البيئة بأن تجنب الانهيار البيئي الشامل، يقتضي العودة إلى وضع ما قبل الثورة الصناعية. هذا يعني حصر الاحتباس الحراري في حدود 1.5 درجة مئوية، بدلاً من الزيادات المتصاعدة التي يعرفها، بسبب ارتفاع نسبة غاز ثاني أكسيد الكربون والميتان وغازات أخرى. العلماء المتفائلون يؤكدون أنه أمامنا أقل من عقدين من الزمن، من أجل التدخل وإصلاح الوضع، وإلا فإننا سنصل إلى نقطة اللاعودة. بينما يرى المتشائمون أننا بالفعل قد تجاوزنا العديد من النقاط الحيوية البيئية للكرة الأرضية. ونقطة اللاعودة تعني بلوغ مرحلة معينة من التدهور البيئي، التي قد تطال الغابات أو الشعاب المرجانية أو الكثل الجليدية أو غيرها من الأنظمة البيئية، التي بفعل تراكم الأضرار لا يمكننا عكس هذا التدهور أو إصلاحه، حتى وإن أردنا ذلك لأن الأوان سيكون قد فات.
بطريقة أخرى نقول: إن الوصول إلى نقطة اللاعودة، سيؤدي بالكرة الأرضية إلى أن تدخل في سلسلة متسارعة من التحولات، التي ستجعل الكوكب غير قادر على دعم الحياة بشكل طبيعي، ليس فقط حياة الإنسان، بل إن الحياة بشكل عام ستصبح في كف عفريت. في نظر علماء البيئية ازدياد الاحترار بمقدار درجة واحدة، سيؤدي إلى خراب حوالي 70% من الشعب المرجانية، بينما ارتفاع الاحترار بدرجتين سيدمر 90% من الأنظمة البيئية البحرية. إن الدليل على أننا إما بمحاذاة نقطة اللاعودة أو ربما تجاوزناها، هو الارتفاع الملحوظ الذي نعيشه في الكوارث البيئية، من حرائق وفيضانات وأعاصير وغيرها.
سيناريوهات كارثية
يطلق العلماء على الحقبة التي نعيشها مصطلح «عصر الانثروبوسين»، وهو مصطلح جديد يصف التأثير البشري على الطبقات الجيولوجية للأرض، الناتجة بسبب التغيرات المناخية. ورغم اختلاف العلماء في تحديد بداية تاريخ هذا العصر. هل تعود إلى الثورة الزراعية أم إلى الثورة الصناعية، إلا أن الأغلبية يؤكدون على أن الأنشطة البشرية أحدثت تغيراً كبيراً في الطبيعة والتوازنات البيئية. وكمثال على هذا التدخل، يتحدث البعض عما يسمى بالقارة الجديدة، وهي القارة المكونة من ترسبات البلاستيك، والتي تبلغ الآلاف من الأطنان، التي تكفي لتغطية دولة كبيرة بحجم الجزائر بكاملها. إن خطورة البلاستيك تكمن في تفككه البطيء إلى حبيبات صغيرة، تتناوله الأسماك ومن تم يصل إلى موائدنا.
فيروسات جديدة
خطورة الاحتباس الحراري لا تهدد فقط صحتنا، بل هي تهدد بالمجمل حياتنا وبالخصوص الأطفال والشيوخ. كل سنة هناك الآلاف من الأفراد عبر العالم الذين يفقدون حياتهم بسبب ارتفاع دراجات الحرارة. كما أن العصر الحراري سيفتح المجال لظهور فيروسات جديدة، قد لا تنفع معها الأدوية أو التطعيمات المعروفة. يتوقع العلماء في المستقبل ظهور أوبئة أشرس بكثير من كورونا. في هذا السياق بقول أحد العلماء: «لا أستطيع على المدى الطويل استبعاد فرضية أن يظهر كائن عضوي مجهول يؤدي إلى اختفاء الإنسان المفكر».
إضافة إلى ما سبق، تؤثر التغيرات المناخية على التساقطات، مما يقلل من نسبة الماء الصالح للشرب، كما تضع الزراعة في وضعية حرجة. وهكذا فلائحة الأخطار وسيناريوهات الكوارث البيئية لا تنتهي. إن الأمر لا يتعلق بأخطار محلية محدودة، بل بسلسلة من الكوارث الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، التي ستعصف بالحضارة البشرية برمتها. وكما أن الأزمة الإيكولوجية ذات أبعاد كوكبية، فان الحلول بدورها ينبغي أن تكون جذرية وعالمية. أي أنها حلول يجب أن تمس جوهر الحضارة، والمشروع الصناعي التحديثي.
القرار المنتظر
إن السؤال الذي يطرح نفسه الآن هو: هل سيتمكن الإنسان من القبول بالتضحية بنمط العيش الاستهلاكي، من أجل اتخاذ القرارات المسئولة والمحترمة للرأسمال الطبيعي؟
ما زالت الكثير من الأصوات، خصوصاً من يطلق عليهم بالبيئويين الشكاك، تحاول التقليل من حدة خطر الانهيار البيئي، معتبرة أن الأمر لا يعدو أن يكون مجرد مبالغات. إن الثقافة المهيمنة على الصعيد العالمي تنبني على الرؤية المنحدرة من المشروع الحداثي الصناعي، الذي انطلق منذ العصر الأنواري، وهو المشروع الذي ينظر إلى الطبيعة كعدو ينبغي السيطرة عليه، عبر المزيد من التحكم الاستغلال والإنتاجية المرتفعة التي تضمن الربح الاقتصادي. نحن الآن في أمس الحاجة إلى مراجعة هذه الرؤية التي ظلت ولأمد طويل تفرض نفسها باعتبارها الرؤية الأحادية للعالم وبناء تصور جديد متكامل يؤسس لعلاقة مغايرة للإنسان مع الطبيعة، مثل ما تعرضه علينا فلسفة الايكولوجيا العميقة deep ecology عند الفيلسوف البيئي النرويجي أرني ناييس arne naess.
لقد تمكنا بفعل الثورة الصناعية من بناء حضارة عالمية، رفعت الإنتاجية في كافة المواد الاستهلاكية، ومكنتنا من تحسين الصحة العامة، ومعدل الأمل في الحياة، غير أن الثمن الذي دفعناه مقابل ذلك كان هو هذه «القيامة البيئية» التي تهدد استمرارية الوجود البشري، التي قد تؤدي بنا إلى العودة لعصور ظلام جديدة أو ربما أسوأ. إذا استمر الوضع على ما هو عليه الآن، ستختبر مجتمعات الاستهلاك والرفاه التي اعتدنا العيش فيها، لأول مرة الجوع والأوبئة وشح المياه، والهجرة البيئية القسرية. وهكذا ستؤدي الظواهر البيئية المتطرفة، إلى وضع كافة الأنظمة المؤسساتية المميزة لحضارتنا في حالة عجز تمام، مثل أنظمة الحماية الاجتماعية والتأمينات، والوقاية المدنية والأنظمة الاستشفائية.
إن اللحظة الفارقة التي يتحدث عنها كوب 27 تفرض علينا إذن التخلي عن اللغة الرومانسية تجاه أمنا الطبيعة من أجل الحفاظ على جذوة الأمل الأخيرة يجب المرور من الأقوال إلى الأفعال، ما عدا ذلك لنستعد للصدمة الكبرى، الوقوف على أطلال الكرة الأرضية.