شكلت مسارات المرحلة الانتقالية للمسيرة التاريخية، من عمق الزمن الرّاهن، سؤالاً جوهرياً لأولى الجلسات الافتتاحية لمؤتمر الفجيرة الدولي للفلسفة في دورته الثانية، وتحدث فيها د. أحمد برقاوي عميد بيت الفلسفة، ضمن بحث تفصيلي عن معنى مفهوم «الرّاهن» وأسباب اختياره كموضوع، كون التاريخ يمثل حركة دائمة، تتباين فيها المجتمعات بحسب مواقعها ما بين المركز والهامش، معتبراً أن الحضارة في الزمن التاريخي الراهن الذي نعيشه، قد يتعين عليها مواجهة ثلاث حالات لتحقيق ما بعد المرحلة الانتقالية، فإما باستنقاع تاريخي أشبه بالدمار، وإما من خلال مفهوم «التجاوز»، أو استحضار الحاضر والاستنباط منه، مبيناً أن انتصار أوروبا، كان انتصاراً لمركزية الإنسان. وفي المقابل، نشأت فكرة «موت الإنسان» في القرن العشرين، ما يجعلنا في الوقت الراهن في صراع المرحلة الانتقالية التي هي البديل لمركزية الإنسان بعد أن سادت مركزية الآلة، متسائلاً: هل نحن نعيش الآن مفهوم «موت الإنسان» أم أننا ما زلنا نبحث عن حالة انتصار لمركزية الإنسان؟!
وشهدت الجلسة مشاركة د. كلود سباك، أستاذ مساعد في الفلسفة رئيس قسم الفلسفة وعلم الاجتماع بجامعة السوربون أبوظبي، ورؤيته لمنجز «التنوير»، وكيف أن كل تلك التحديات التي شهدتها المراحل الانتقالية للحضارة وسيرورتها التاريخية، ساهمت بحد ذاتها في تطوير التجربة الإنسانية، من خلال البحث العلمي والحريات الفكرية والتجارب المعرفية. بينما أبدت د. أريانا كونتي، أستاذ مشارك في الفلسفة في الجامعة الأميركية في الشارقة، استهجانها لتراخي الاهتمام العالمي بالفكر الفلسفي سبيلاً لإيجاد الحلول، وخاصةً فيما يتعلق بمسألة القيم، فالأزمة المناخية في عمقها تعبير عن الأزمة القيمية لدى الإنسان، وأنه حان الوقت لتوقف وإعادة التفكير في الإمكانية الفعلية لتبني الفلسفة كمفتاح لقراءة الراهن وفهم إمكانياته.
«الانتقال من مسطح الماهية إلى مسطح الفعل» تعبير أوضح خلاله المفكر والفيلسوف السعودي د. شايع الوقيان، عبر مداخلة تحت عنوان «من وجهة نظر الراهن لماذا نتفلسف؟»، أن الهويات يجب أن لا تتأسس على المكونات الجوهرية للإنسان العربي كالعرق والدين واللغة وغيرها، وإن كانت مهمة، بل يجب أن تنطلق الهوية من المكونات الفعلية، بمعنى أن نعيد صياغة الهوية، في كونها تعكس ما يفعله الشخص، وليس بناء على ما ينتمي إليه، وهو برأيه موضوع قد يتنافى مع الكثير مع المذاهب الفكرية والدينية والمجتمعية، القائمة على الانتماءات الدينية والطائفية والاجتماعية وما إلى ذلك، مضيفاً أن الانتقال من الماهية، أي من منطق الجماعة إلى منطق الفرد، يجعلنا نحدد هويتنا من فعل نتحمل مسؤوليته «فإذا حددت هويتي على أني عربي، فإني لم أفعل شيئاً لأكون عربياً»، ولذلك يرى الوقيان أن مفهوم «الهوية» المتأسس على الفعل وليس الانتماء الماضوي، يوائم بطبيعته الراهن، الذي يمتاز بالاختلاف والتنوع.
ولعل اللافت في مداخلة د. محمد مصباحي، أستاذ الفلسفة في جامعة محمد الخامس في الرباط بالمغرب، بعنوان «هل للفلسفة دور في الوعي العربي اليوم؟»، حديثه المستفيض عن «الأفق»، بوصفة الوعي بالذات والآخر، وكيف يمكن أن يحدث التجاوز للذات نحو الآخر، باعتبار الآخر جزءاً من الذات، والقادر على أن ينقل الواقع الراهن إلى واقع جديد، وخاصةً أن «الأفق» يحمل سمة التفسير والتعريف لفهم جديد، حيث إن تجاوز الراهن، لا يمكن تحقيقه وفق تفسير قديم، معتبراً أن الأفق الشخصي هو أداة تحرير عن الأفق الجماعي ومنظومتها المتماسكة بعاداتها وقيمها، مقدماً أشكالاً عدة للأفق، فمنها الأفق الحداثي المنفتح، والأفق المنغلق على نفسه، إلى جانب الأفق الطموح الذي يريد أن يدخل في منافسة وتحدٍّ مع الآفاق الأخرى، والأفق المتراجع الذي يرفض أي تنافس لإحداث الارتقاء، والأفق العالم الزاخر بالمعرفة والابتكارات الإبداعية، والأفق الجاهل، الذي يقوده فقره الثقافي والمعرفي بتجاه رفض المظاهر الثقافية والإبداعية.