نوف الموسى (دبي)

التعبير الأدائي، لا يزال في سياقاته الجمالية، إبداعٌ منقطع النظير، قوته في أنه يكتنز في ثناياه أسئلة جوهرية، لا يُمكن في كثير من الأحيان، استشفاف مكوناتها الفكرية والحسية، دونما ممارسة حيّة على خشبة المسرح، أنت المُشاهد المتربع على كرسيّ اللحظة، تُلاحظ نفسك تتماهى في العرض المسرحي، متجاوزاً جّل ما يعيقك للذهاب إلى تلك الحوارات المفتوحة بينك وبين الآخرين، كأنما هالة من القُبول تحيطك، محاولاً من خلالها مراعاة رغبتك في السعي لاكتشاف ما يُحرك الدوافع لبناء الحدث الإنساني وتطويره، لذلك فإن مرتكز «النص المسرحي» في مهرجان دبي لمسرح الشباب في نسخته الـ13، يُعتبر النافذة الأولى لإدراك التجربة الشعورية لدى الشباب في الإمارات، وما يعيشونه من مواجهات مستمرة مع متغيرات العصر الحالي، والتحديات الاستثنائية للتحولات الخاصة التي يمر فيها الفرد، كما أن استدامة الفعل الثقافي المسرحي تُمثل حالة حضارية لفهم تاريخية الذاكرة الجمعية، والهويات الإنسانية، ومنه فإن استمرار «مهرجان دبي لمسرح الشباب» ضرورة وحاجة مجتمعية لإحداث التواصل بين الأجيال ومختلف الثقافات في مجتمع دولة الإمارات.

قدمت هيئة دبي للثقافة والفنون، في «مهرجان دبي لمسرح الشباب»، 6 عروض مسرحية شبابية، تابعة لمختلف المسارح المحلية في دولة الإمارات، عكست رؤية عامة للكيفية التي تتم فيها التشكلات الثقافية في بيئة المسرحيين الشباب، وجاءت العروض بمستويات متباينة، بين الإخراج والسيناريو وأداء الممثلين والسينوغرافيا، إلا أن مكامن القوة ظهرت في أبعاد بعض النصوص المسرحية، من أبرزها مسرحية «البرواز» للكاتب سعود الزرعوني، والمخرج محمد جمعة. وما يدعو للتفكر في العرض المسرحي، هو الطريقة الأخاذة التي تناول فيها الكاتب سعود فكرة الهوية وصراعاتها بناءً على البيئة المجتمعية التي تتشكل فيها، وتحديداً الطريقة التي تتنافر فيها الهويات الفردية مع نفسها، وسط تحولات تعيشها مع الهويات المجتمعية العامة، وجميعها ترتكز على الذاكرة الشعورية كمحرك لفعل الإنسان ما بين الانتقال لهوية متجددة تماماً، أو التكيف وفق هوية تحمل سمة مشتركة بين الفرد ومجتمعه، وفي كلتا الطريقتين فإن الأمر يقودنا إلى كونها أزمة هويات عالمية، من شأنها أن تعيد تشكيل العلاقة بين المجتمع والفرد بطرق مختلفة، لم تعتد عليها المجتمعات الإنسانية من قبل. وبالرجوع إلى نص مسرحية «البرواز»، فإنه لم يكن هناك إسقاط مباشر للفكرة، بل توزعت أفكارها على الشخصيات، وأُتيحت للمتلقي مساحة تأملية في لغة مسرحية مفتوحة وقابلة للتأويل.

اللعبة المسرحية
هناك من يُشعرك وكأن ما يحصل على الخشبة شيء حقيقي، ينساب إليك بخفة، ويسير بك نحو اللعبة المسرحية، ومتى ما تأكد من حضورك الكليّ، استكمل مشهده وارتجل قوة إضافية ليبقيك في الشخصيات، ويرسخ أثرها في وعيك مثل جذور شجرة كبيرة، وسط الصحراء، إنه الممثل المُخلص لروح شخصياته، مثل الممثل الشاب خليفة ناصر، في مسرحية «البرواز» ومسرحية «حينما يرفع الستار» وفي المسرحيتين يعرف متى عليه أن ينحاز إلى فعل الشخصية، ومتى عليه أن يتوقف بعيداً ويجعلها تكشف بوضوح مبتغاها من العرض. أما الممثل المبدع مازن الزدجالي، وبطريق ما، لا يمكن وصفها، فقد جعل من عرض مسرحية «دوبي»، التي بحثت في الإشكاليات المعاصرة مثل هشاشة العلاقات الإنسانية أمام المعضلة التقدمية للتكنولوجيا، رقصة لا نهائية لشخصية، لم يقدم لها النص المسرحي بعداً عميقاً، إلا أن الممثل مازن الزدجالي، أضاف إليها اشتغالاً في الانضباط بين التصاعد في الحركة على الخشبة، وبين الهدوء الذي ينم أن الشخصية عليها أن تكشف ضعفها للعالم. فالجمهور طوال العرض كان مشدوداً إلى لغة الجسد الرصينة وتتابعها بالأداء، كانت هي بطلة العرض بالمجمل، توازيها جمالية سينوغرافيا العرض للمخرج عبدالله الحمادي.

الفضاء المسرحي
وتعددت الأشكال الإبداعية في تعبيرات الفضاء المسرحي، للعروض المشاركة في المهرجان، ومن بينها السينوغرافيا التي تمرر نفسها للجمهور بلغة تتحدث فيها عن كل شيء ولكن بصمت مدروس، مثلما هي مسرحية «دوبي»، وهي كلمة محلية تطلق على الشخص الذي يمتهن كي الملابس، حيث جعلنا المخرج عبدالله الحمادي جميعاً في حوار مباشر مع أصحاب تلك الملابس، التي نراها معلقة وممتدة، في الفضاء العام باكتظاظ وغزارة، يخيل إلينا أنها منظمة ومرتبة، وكذلك ثقيلة وفوضوية، معبرة عن كم الهويات والأفكار والمعتقدات المحملة في تراكيب القطع القماشية، إلا أنها في الآن ذاته، قد توحي بدعوة الجمهور نحو تجربة ارتداء تلك الملابس، والشعور ضمنياً بالشخصيات، وفي المقابل جاءت الرقصات الاستعراضية، واحتفاليات «الجوقة»، في مسرحية «قصة» للمؤلفة ميرة المهيري، والمخرج عبدالله المهيري، بمثابة سينوغرافيا متحركة لمجموعة من السلالم، التي اتخذت أبعاداً هندسية لشكل الحياة التي ترتحل من خلالها الشخصية «انتصار» لتكشف عن ظِلالها، في مناقشة بارزه لموضوع العنف الأسري ضد المرأة.
والرقصات الاستعراضية والسينوغرافيا المتحركة في مسرحية «قصة»، رغم انفصالها جزئياً عن المعنى من حيث ارتباطها بالشخصيات، إلا أنها كانت فعلياً منسجمة مع ذاتها، وأبرز ما تقدمه تجربة تصميم الرقصات وحركة السينوغرافيا، هي قدرة الشباب على بناء فعل جماعي مشترك على الخشبة، كون الاستعراض يتطلب انسجاماً لإيقاع الجسد، وكيمياء العلاقة بين الممثلين، وحضور مثل تلك الإمكانيات، من شأنه تطوير اللغة المنسية في حياتنا المعاصرة، وتأكيد على مدى قيمتها الثقافية، وهي «لغة الجسد». فما يقدمه المسرح، في هذا الجانب تحديداً، ليس تمكيناً لشباب في كيفية تأدية حركات متسقة وفق تصميمات شكلية توازي النص المسرحي، ولكنها تلفت الانتباه إلى العائق الفكري والاجتماعي نحو الإيقاع الإبداعي لحركة أجسادنا في الفضاء العام، إنها حالة من التناغم الطبيعي التي يحتاجها الإنسان في فهم جوهر اتصاله مع نفسه والآخرين، فالعروض الأدائية والرقصات تظهر كعلامة بارزة في الطقوس والاحتفالات المجتمعية واللغات القديمة، كطريقة تواصل أصيلة في التجربة الإنسانية، وبذلك نحتاج إليها لفهم التراكم التاريخي لتطور أشكال التعبير عبر ذاكرة الجسد، وأهميتها في تطوير المناحي الإنسانية عبر مختلف الحضارات، وصولاً إلى العصر الحديث.

مؤشر وعي
في أغلب العروض المشاركة ضمن مهرجان دبي لمسرح الشباب 13، يُشهد للمسرحين الشباب بتصديهم بشكل واضح، هذه المرة، مقارنة بالسنوات السابقة، لموضوعاتهم وقضاياهم، بعد أن ظلوا فترة طويلة يسبحون في فضاءات بعيدة عن جوهر ما يحتاج المجتمع أن يسمعه منهم، فقد كان الأمر في السابق أقرب لمهمة بيان قدراتهم الإبداعية من تمثيل وإخراج وبعض من التأليف في المسرح، دونما دراسة عميقة في التساؤلات التي تدور في تجاربهم الشخصية، وكيف ينظرون هم كشباب لكم التحولات والمتغيرات الراهنة، وكيف تؤثر على أبسط قراراتهم الحياتية. وما طُرح في «مهرجان دبي لمسرح الشباب» في أكتوبر الماضي، على مستوى المضمون والشكل، إنما هو مؤشر على وعي بيئة المسرحيين الشباب، بأهمية أصواتهم، ودورهم كمبدعين في الحراك الثقافي المحلي، من إحداث حوارات استثنائية، تتيح أكبر فرصة ممكنة لتنامي الرؤى المجتمعية، وإثراء فعل اللحظة الحيّه في التواصل الإنساني، أمام معضلة الفعل الثقافي الافتراضي، فالمسرح بطبيعته سيبقى تجسيداً فعلياً للمسافة الطبيعية بين الفعل الفني والجمهور، والملاذ الرفيع لفضاء الوعي في ذاكرة التجرية الإنسانية.