نوف الموسى (دبي)
لا أخفي أبداً إعجابي المستمر بفريق مسرح دبي الأهلي، في قدرتهم البديعة على العمل كمنتجين لحالة مسرحية، تتفق أو تختلف مع ما يقدمونه من عروض مسرحية، إلا أنهم يدركون معنى أن يكون لكل مسرحية مقوماتها الإنتاجية، وكذلك جمهورها الذي يأتيهم من مختلف الأعمار والاهتمامات، إنها نقطة استثنائية في سجلهم المسرحي، ولا يمكن التغافل عنها.

في عرضهم الأخير لمسرحية «قِصّة»، ضمن مهرجان دبي لمسرح الشباب النسخة 13، توقفت كثيراً عند فكرة التجربة الأولى للمؤلفة الشابة ميرة المهيري، وتعاونها مع المخرج الشاب عبدالله المهيري، الذي قدم تجارب عديدة مسبقة، في التمثيل والكتابة والإخراج، ونجح في حصد اهتمام المجتمع الثقافي والفني، فقد تركز اهتمامي حول أبعاد ما يشكلونه في الفضاءات المسرحية الشبابية، خاصة أن العرض المسرحي تفرد بجوقة وممثلين تجاوزوا الـ 10 مواهب، إلى جانب فريق فني مهتم بإدارة الخشبة والإنتاج وصناعة المؤثرات والموسيقى، فنحن نتحدث هنا، عن نسيج من العلاقات الإنسانية تسعى باحترافية نحو بناء تراكمي لمعنى أن يتحمل الشباب بأنفسهم مسؤولية الصناعة الإبداعية، وبالنسبة لنا كمتابعين في المجتمعات الإعلامية والثقافية والاجتماعية والفنية والنقدية، فإن مهمتنا تكمن في الحفاظ على تلك التجارب، وإتاحة أكبر فرصة ممكنه من التعاونات الاستراتيجية، والبرامج الوطنية، والرؤى الاقتصادية لدعم عجلة «الصناعة المسرحية»، وجعلها ضمن رؤى البنى الثقافية ذات الارتباط المباشر بمبادرة «الاستراتيجية الوطنية للصناعات الثقافية والإبداعية»، تحت مظلة وزارة الثقافة والشباب، إلى جانب «استراتيجية دبي للاقتصاد الإبداعي». 

صوت مدوٍّ 
ما فعلته المؤلفة ميرة المهيري بحديثها عن المرأة وكونها في مواجهة محتدمة مع ذاكرة من العنف عبر التاريخ البشري الطويل، من خلال أشكال تعنيف الرجل للمرأة، يكاد يكون بمثابة صوت مدوٍّ، يذهب بنّا بشكل عميق إلى صراع المرأة مع نفسها، في إمكانية تجاوز هذا الموروث، الذي تسلل بشكل لا واعٍ عبر التلقين المستمر في الثقافات ذات التأصيل الذكوري، وفق معتقدات مجتمعية قديمة تعود لقرون سحيقة صُنفت فيه المرأة بكونها ملكية خاصة، جاعلاً من «التعنيف» أمراً مبرراً بغرض الحفاظ والحماية، بل واستمر هذا التبرير يحمل قوة وأثراً، حتى بعد التحولات الفكرية والثقافية والمجتمعية في مختلف الحضارات حول العالم، حتى جاءت الهيئات القانونية والتشريعية في العهد الحديث لتضع حداً جزئياً لما يمكن وصفه بأفعال تتجاوز الإدراك الإنساني لمعنى احترام ذاتية المرأة والرجل على حد سواء، فلكل منهما كيانه وخياراته وتفرده، واستخدام العنف لتهديد الكيان الإنساني، إنما جريمة تتطلب ردعاً ووعياً مجتمعياً. 

المدهش في السردية المسرحية لمسرحية «قِصّة»، هو ذهاب المؤلفة ميرة المهيري عبر الشخصية الرئيسية للعمل «انتصار»، جسدت الدور الممثلة الشابة المبدعة عذاري السويدي، إلى قُبول المرأة لمسألة التعنيف والسكوت عنه دونما محاولة جادة لمواجهته، وهنا نستشف المعالجات البصرية للمخرج عبدالله المهيري، في كيفية إدارته للفكرة بذكاء، فبالرغم من كم الألم الذي تكتنزه التجرية في كيان المرأة، حتى هذه اللحظة من تاريخ البشرية، فإنه المخرج احتاج أن يضعها على الخشبة، ويجعلنا جميعاً نضحك على مرارة الموقف، وفي اللحظة نفسها نُستفز ولا نستطيع فعل شيء إزاءه، وفي اعتقادي هذه التحولات مثلت تأثيراً غير مباشر على الحاضرين من الرجال والنساء، وربما كان استخدام الجوقة بمثابة ترويح عن النفس، وممر أساسي لإيصال الفكرة، دونما مساس بالجرح، وإنما محاولة لبيان موقعه في ذاتنا الإنسانية. 

 

ما يخفيه الظل
ترتحل الشخصية «انتصار» بين أقوام عدة، لنجدة ومساعدة النساء اللاتي ارتضين العنف، ومناقشة الرجال وسؤالهم عن سبب استمرارهم في ذلك، وكانت إجابة كبيرهم بأن هذا ما فعله والده مع والدته، وجده مع جدته، مستغرباً سبب إقحام نفسها في الموضوع طالما ارتضت النساء ذلك وقبلن به، حتى وصلت الشخصية «انتصار» إلى قوم يدعون «غلط»، حيث يقف المعلم بجانب سبورة ومجموعة من الشبان الصغار يمسكون بأيديهم «رضاعة» من تلك التي يستخدمها الأطفال لشرب الحليب، حيث يدرسهم المعلم بالطريقة التلقينية القديمة أن يقولوا «غلطُ، غلطِ، غلطَ» وهكذا يتغنى الشبان، كمن يتعلم شيئاً دونما أن يعي معناه، ويمارسه دون أن يدرك لماذا، ولنا أن نتخيل كيف وضع المخرج عبدالله المهيري هذا المشهد أمام جمهور يجلس فيه شبان يشاهدون كيف تتشكل الأفكار ويتوارثونها دونما وعي، بالمقابل هناك مشهد ضرب «انتصار» من قبل أحد الأشخاص من الذين التي توقفت عندهم أثناء رحلتها لاكتشاف ما يخفيه الظل في النفس البشرية، حيث قال كبيرهم وقتها: «اضربوها»، كونها لم تحترم مسألة الضرب باعتبارها عادة أصيلة لا عيب فيها ولا ضرر، وذلك أمام عيون النساء الحاضرات في المسرحية، وهو بطبيعته يحمل أثراً كبيراً لطرح السؤال، ورغبة دفينة نحو التغير، وهو بالتأكيد ما يستطيع المسرح فعله، أن يمرر الفعل، ويجعلك تناقشه في ذاتك قبل الآخرين. 

الإضاءة والصوت

التمعن في مجهود الجوفة، وسينوغرافيا السلالم المتحركة حمل بطبيعته دلالات ومفاهيم فكرية عديدة، لا يسعنا هنا تفكيك أفكارها وتصوراتها بشكل جمالي وفلسفي، ولكنها استدعت بشكل ما ترابطاً أكبر مع فحوى الشخصيات في العمل المسرحي، سواء مع الشخصية «انتصار»، أو مع شخصية «الشاعر» و«المعلم» و«كبير القوم»، التي قدمها الممثل الشاب المبدع سالم التميمي، ونلحظ ثمة تباعداً أحياناً بين الأداء التمثيلي والتناغم مع حركة الجوقة في الفضاء المسرحي المبنية على جمالية المؤثرات الموسيقية، التي قدمها المصمم عبدالعزيز الخميس. والحق يقال في هذا الأمر، إن قاعة المسرح لم تدعم فكرة الإضاءة في العرض، مع وجود إشكالية في الصوت حرمت الجمهور من الاستماع إلى بعض الجمل المهمة التي ذكرتها الشخصية الرئيسية «انتصار»، وجميعها أثرت بشكل ما على علاقة الجمهور بالعرض، وهنا لا بد من التأكيد على أنه مهما بدا سحر السينوغرافيا المتحركة وتفاعل الجوقة لافتاً، إلا أن دوره الأساسي في أن يخدم جودة التمثيل من قبل الممثلين من خلال الحفاظ على التواصل الحيّ مع الجمهور، من غير انقطاع جزئي، لا أن تعمل السينوغرافيا المتحركة بشكل ذاتي بعيداً عن روح العمل المسرحي.