نوف الموسى (دبي) في اللحظة التي بدأ فيها الجمهور يلحظ ملامح العالم الذي ابتكره الرسام، الشخصية الرئيسية، من خلال تحويله لثلاثة سارقين سطوا على منزله، في محاولة للظفر بشيء ثمين، إلى هويات متعددة، جسدت معتقداته وأفكاره ورغباته الدفينة، وكذلك مخاوفه من شعور الوحدة، التي بطبيعتها تدفع نحو بناء وهم من السرديات الشعورية التي عمد الرسام، جسد الدور الممثل الشاب خليفة ناصر بشكل بديع إلى تطويرها، ما يسمح بتحررها إلى أشكال إبداعية يرسمها في اللوحات، ومنه جاءت مسرحية «البرواز» للمؤلف سعود الزرعوني والمخرج محمد جمعة، والتابعة لجمعية الشارقة للفنون الشعبية والمسرح «المسرح الحديث»، ضمن عروض مهرجان دبي لمسرح الشباب 13، محاولة لإدراك تلك التحولات في الهوية الشخصية، نتاج تفاعلاتها مع محيط المتغيرات الاجتماعية، أما رمزية «السرقة» أو «السارقين»، فذهبت هنا إلى الاستنزاف اللانهائي لتلك المخاوف الكامنة في التجربة الإنسانية، والتي يُمكن لـ «التمثيل» امتلاك القدرة على التحرر منها، بدلالة أن شخصية «الرسام»، استخدم هوية الشخصيات الثلاث «السارقون»، والتي كانت تعبر كل واحدة منها عن تجربة مر هو نفسه بها من قبل، فمثلاً كانت إحدى الشخصيات هي امرأة قدمتها الممثلة سارة السعدي عكست بدورها بعداً لزوجته التي تخلت عنه، وقد عمد وقتها «الرسام» إلى فتح حوار مع المرأة، وجعلها تتقمص دور المحامية لدفاع عن نفسها، سامحاً لها بتبرير تصرفها ورؤيتها للحياة، وبذلك حدث أن العرض المسرحي قدم ممثلاً في داخله ممثل أخر، أيّ التمثيل في داخل التمثيل، معبراً عن ما يشبه هويات مختلفة لشخص نفسه.
تتابع الهويات يأتي الزمن بمثابة الفيصل في تتابع الهويات، فكل شخصية تأتي بموروثها الفكري والاجتماعي والثقافي، وحاجتها للنمو والتطور يتطلب شيئاً من التحرر من كل ما يقيدها، وبالتالي ينجم بناء على ذلك هوية جديدة للأشخاص، إلا أن الأزمات والصراعات الإنسانية تتفاقم بسبب الصراعات الداخلية في الشخص، من عدم مقدرته على تجاوز الهوية الشخصية القديمة، وقبول بالهوية الجديدة، فالهويتان تتصارعان للبقاء، وبينهما يتشكل الوهم بحثاً عن الخلاص، وتأكيداً على هذا البعد المهم يلاحظ المتابع للعرض كيف أن الشخصية الرئيسية «الرسام» رغم قوتها وهدوئها، طوال الحوارات المفتوحة مع الشخصيات المبتكرة، سعياً منه إلى تطويرها، إلا أنه عند وصوله عند شخصية عامل النظافة التي قدمها الممثل محمد إسحاق، تضعف شخصية الرسام تماماً، كونها تعكس شخصيته الفعلية، فهو في الحقيقة ليس رساماً كما كنّا نظن جميعاً، بل عامل نظافة يرسم أوهاماً لقصة غير حقيقية، ليتجنب بذلك مواجهة نفسه وحقيقته.
تطوير الهوية الفرق بين العدل والمساواة، مثل أحد الأسئلة الكبرى في عرض مسرحية «البرواز»، فيها عرفت شخصية «الرسام» «العدل» بأنه إعطاء كل ذي حقٍ حقه، أما «المساواة» فهي إعطاء الجميع المقدار ذاته دون الالتفات لمستوياتهم، ما شكل الطرح تعبيراً للأضرار المجتمعية الجسيمة إذا ما اختلت أوزان العدالة والمساواة، من خلال تفشي حالة من الشعور بالتهميش والوحدة، وكون أن معضلة العدالة والمساواة إحدى القضايا الإنسانية الكُبرى، فإنها أيضاً محرك جوهري لسؤال «أزمة الهوية»، والتي تجدها في أغلب المجتمعات، على اختلاف ثقافتها ومرجعياتها الحضارية والمعرفية، فهي ركيزة للتنمية من جهة، ووسيلة لتطوير الهوية الشخصية من جهة أخرى، تحمل الوجهين في الآن ذاته، ما يجعل العرض المسرحي مفتوحاً على مصراعيه، ويستدعي التروي في مناقشته، فالإشكالية ليست في كونك عامل نظافة، بل النظرة المجتمعية الدونية لما تفعل، وهذه ليست دعوة لإبقاء الأمور كما هي، حول نظرة بعض الأشخاص للمهن البسيطة، ولكنها محاولة لكيفية بناء مساحة من التقبل والمساهمة في تطوير الهويات الشخصية، دونما المساس بالخيارات والحريات الشخصية للأفراد.