نوف الموسى (دبي)

في اعتقادي أن على النقاد والصحافة الثقافية، الابتعاد عن الاستحضار الكليّ للإجابات جميعها من الفنان، بل الانضمام إلى لعبة المتخيل أياً كانت، والبدء بتوسيع نطاقات الرؤى الفنية للفنانين، بأن يكون دائماً هو المتلقي القادر على استفهام نفسه، من خلال رحلة الفنان، أتذكر اللحظة الأولى في اللقاء الصحافي لـ«الاتحاد» مع الفنانة الإماراتية الشابة سارة المهيري، أثناء انطلاق أول معرض فردي لها «عندما كانت الأرض» في «Carbon 12» بالسركال آفنيو، مؤخراً، بينما كانت تتحدث عن اللحظات التأملية في عملها، وكيف كانت تمارس فعل المشيِ العابر لتفاصيل المسارات المعمارية لطرق الحياة في الشوارع اليومية، قائلةً: هناك لغة قد لا نعيرها اهتماماً مباشراً، لغة بصرية بينية لها تصورات عشوائية، إلا أنها مع الوقت تحمل مدلولات ومفاهيم معرفية، لأجيبها: بأن هناك حركة زمنية في داخل أعمالها، برمزياتها، وأنني كمتلقٍ أتشكل بطريقة ما عبر هـذه الحركة. وتستطرد بقولها: ما تقولينه ملفت للانتباه، ولكن بالنسبة لي، فإني أرى بأن المتلقي هو من يتحرك ويتفاعل مع العمل الفني، والطريقة التي وضعت فيها الأعمال على الأرض تجعله يحدث الاتصال، إنه يرى باتجاه الأسفل، ينتبه للحظة توقفه، للتفافه، تنفسه، وحتى المساحات بين الأعمال القائمة، والمستندة على الحائط، ليبدأ بينها بالتفكير وإحداث الاتصال.

حرية التفسير
ما الذي يعنيه الدخول في الاحتمالات اللانهائية للعمل الفني؟ إن تفسير الفنان لعمله، يحمل طبقة أولى لابد أن تُزال من التفسيرات الخاصة للمتلقي، في حديث الفنانة سارة المهيري، ألقت بعداً جوهرياً حول هذا المفهوم، وهو أن للمتلقي حرية التفسير في نهاية الأمر، وعليه فإن ما تفعله الفنانة سارة، يمكن أن نسميه إذا صح التعبير «ذاكرة مؤقتة»، ولا يعني ذلك أن عملها الفني يفقد قيمة الثبات في تجربتها الفنية، بقدر ما أنه يحاول أن يراكم لحظات عابرة، عبر منحوتات أرضية مصنوعة من الخرسانة، والأعمال على الورق والقماش، إضافة إلى المكونات الهندسية، إلى جانب الخرائط والاستدلالات المكانية، نحو تحقيق إدراك معين، في جزء اللاوعي من تجربة المتلقي. ونقلها إلى مستوى من الوعي، وطرح أسئلة مثل: القيمة المرجوة من معرفة لطخة فحم مرسومة على جدار، والتصاق علكة وردية على حافة ما، أمام أشكال هندسية قد تكون ضخمة، تحدد طرق المشي اليومية، فهل مثلاً بالنسبة للفنانة سارة المهيري، إحداث هذا الاتصال ولو لبرهة، وما نقصد به بالذاكرة المؤقتة، قد يدفعنا لبلوغ عوالم الفضاء المرتكز على «الذاكرة الأصيلة» إن جاز التعبير. والأصالة هنا ترمي للتجربة الإنسانية بكافة أشكالها وتنوعها وتعددها، فهي حالة من دفع الاحتمالات والخيارات في الذاكرة اللحظية نحو الذاكرة الأعمق، والتي نفترض أنها كنز غير مكتشف، في مرحلة حياة كل شخص، بل إن اكتشافها يتطلب مراحل عمرية متباينة، ومساحات عظيمة من التجربة والمجازفة.

المتغير اللحظي
والحال أن الفن إحدى الوسائل الحسيّة، نحو المواجهة التفاعلية، للتأكيد على أن ميزة اللحظة المؤقتة أنها تمتلك قوة التغير، والتكرار فيها ليس تكراراً بالمعنى الفعلي، وهنا تشير الفنانة سارة المهيري، بأنها تعمل على بيان أنه لا يوجد مسار واحد لمكان تمشي فيه كل يوم، وقد يتراءى لك أن التفاصيل اليومية هي نفسها، ولكنها فعلياً تحمل عدة مسارات قادرة على أن تتشكل في اللحظة الواحدة يوماً بعد يوم، ولذا فإنه من البوابات الكامنة في التجربة اللحظية التي أشارت إليها سارة المهيري، نصل إلى أن احتياجنا المستمر لقوة المتغير اللحظي، يؤدي بنا إلى الدفع بثبات «الذاكرة الأصيلة» نحو التحرر والانكشاف، وبشكل يمكنها من التطور والتكيف والنمو، باعتبارها مستوى عميقاً من القراءة الجوهرية للأعمال الفنية، التي تسعى إلى إحداث فرق في كل ما يُدعى بـ«الثبات». فالأخير هنا يعتبر مقابلاً لقوة متفردة تتسم فيها الهوية، وهي قدرتها على التعددية. وما فعلته الفنانة سارة المهيري، هو أنها وضعت هوية الأشياء بذاتها، وحولتها إلى لغات بصرية، تتيح لها الحق في التبدل والتشكل والتعبير عن نفسها، بما ينسجم مع قدرتها الإبداعية في التأثير علينا، فطالما نحن صنعناها، فنحن نحمل سمة لغتها وقابلية تعدديتها كلما تفاعلنا مع المحيط الداخلي في ذواتنا أو السرديات الخارجية مع الآخر.