الفاهم محمد
يتعلق الأمر بمصطلح جديد، بدأ يتبلور بعيد أزمة «كوفيد- 19»، واستعمله لأول مرة في يونيو 2020 كلاوس شواب في كتاب يحمل العنوان نفسه، كتبه مناصفة مع تيبري مالوريت. وكلاوس شواب هو مؤسس المنتدى الاقتصادي العالمي WEF المعروف بمنتدى دافوس، تحت مسمى The Great Reset أي إعادة الضبط العظيم أو الشامل للمجتمعات البشرية على كافة المستويات، وخاصة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية. وذلك من أجل وضع حد للأزمة، التي خلفها وباء الفيروس التاجي وللسيطرة عليها.
وبعد ذلك انتقل المصطلح كي يصبح موضوعاً، يتناوله بالبحث كثير من المفكرين، نذكر من بينهم الفرنسي إريك فيرهاغ Éric Verhaeghe الذي أصدر كتابا تحت عنوان: «الضبط العظيم الأساطير والواقع». وهو الكتاب الذي قارب بطريقة نقدية طروحات كلاوس شواب وتيبري مالوريت.
وهناك كذلك الأميركي ريتشارد فلوريدا وكتابه: «الضبط العظيم. كيف ستتمكن ما بعد الأزمة الاقتصادية من تغيير الطريقة التي نعيش ونعمل بها»، ثم مواطنه مارك مورانو بكتابه الذي كان ضمن الأكثر مبيعاً أثناء صدوره تحت عنوان: «التشغيل الكبير، النخب العالمية والإغلاق الدائم».
وعموماً فقد تم طرح هذا المصطلح في منتدى دافوس، باعتباره خطة طريق من أجل مساعدة المجتمعات على الخروج من الأزمة التي تركها الوباء. فمواجهة الجائحة لا تتعلق حصراً بالتدابير الفردية، بل أكثر من ذلك بطبيعة الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية التي سنتخذها. غير أن الأمر لم يكن بهذه السهولة، فالآراء انقسمت بين من رأى أن المنهجية الجديدة، يجب أن تركز على الجانب البيئي وضرورة العناية بالمناخ والحد من الاحتباس الحراري. بينما رأى آخرون، أن هذا المشروع ما هو إلا ذريعة من أجل إعطاء دفعة جديدة للرأسمالية، وتعزيز الثورة الصناعية الرابعة.
إعادة الضبط الشامل
ويشير الكاتبان كلاوس شواب وتيبري مالوريت إلى أن الأزمات الكبيرة التي عرفها الإنسان عبر التاريخ، كانت دائماً مناسبة لإعادة إحداث تغيير شامل في المجتمع. وما يطمح إليه الكاتبان ليس فقط وضع خطة صحية للقضاء على الفيروس التاجي، بل أيضاً خلق مجتمع جديد، يكون أقل تلويثاً وأكثر احتراماً للطبيعة، وأكثر عدلاً ومراعاة لمختلف الشرائح الاجتماعية. أما إذا لم ننجح في هذا المسعى، فإننا على العكس من ذلك سنتجه إلى عالم أسوأ مما نعيشه اليوم. عالم يحيطه الخراب من كل صوب.
وثمة قضية أخرى نبهنا إليها الوباء، هي المشكلة الإيكولوجية. ففي نظر الكاتبين ينبغي الاعتماد على إعادة تدوير المواد، من أجل تخفيف الضغط على العناصر الطبيعية، والتفكير في انتهاج طرق تنمية مستدامة، لا تدور رحاها على مركزية الإنسان، بل على الطبيعة وعلى كل الكائنات الأخرى، التي تستحق بدورها أن تتواجد على الأرض. وبطريقة أخرى يدافع الكاتبان عما يسميانه بالصناعة الخضراء.
لقد آن الأوان لكي نعمل على إصلاح كل الأزمات التي كانت مؤجلة منذ عقود. وعلينا أن ندرك هنا أن ما يجب إصلاحه، لا يطال فقط الجانب الصحي والطبي الذي أحدثه الوباء. بل كل المجالات الأخرى، وتشمل الجوانب السياسية والاقتصادية والبيئية وكذا العلاقات الإنسانية ونمط الحياة العامة. وهكذا يستعرض الكاتبان بطريقة تنبئية ما ينبغي أن تكون عليه الحضارة البشرية في المستقبل.
إن أهمية هذا المشروع تكمن في أنه ليس مشروعاً قطاعياً يهم منطقة دون أخرى، بل هو يقدم نفسه باعتبارها مشروعاً شاملاً، يتعين أن تنخرط فيه كل الشعوب، وإضافة إلى صفة الشمولية ينبغي أن نضيف أيضاً ميزة الجذرية، فالتغيرات المرتقبة يصفها الكاتبان باعتبارها عميقة، وهذا معناه أن عالم ما قبل «كوفيد» لن يشبه بتاتاً ما بعده.وبصفة عامة يمكن التأكيد، على أن الحاجة إلى القيام بتغييرات جذرية في النظام الاقتصادي العالمي، أصبحت أكثر إلحاحاً اليوم أكثر من أي وقت مضى، ولكن هل من السهل فرض هذه التعديلات على المستوى العالمي بعيداً عن منطق التكتلات والمصالح الاقتصادية الضيقة لأندية النخبة؟
الثورة الصناعية الرابعة
لقد نظر إلى الجائحة باعتبارها حدثاً، ينبغي أن يفصل بين ما قبله وما بعده. فنحن أمام لحظة تاريخية تتطلب القيام بإعادة ضبط شاملة لحضارتنا، بغرض تأسيس مجتمعات جديدة. إن ما يميز هذه الأخيرة، هو التعقيد البالغ حيث يتطلب الأمر الإلمام بالعديد من المعارف المتداخلة، السياسية والتكنولوجية والاقتصادية، وهي معارف ليست بالضرورة في متناول عامة الناس. ولذلك يؤكد الكاتبان أنه ينبغي أن نترك الأمر لنخبة من العارفين، هي التي يجب أن تضطلع باتخاذ القرارات اللازمة، للخروج من عنق الزجاجة.
فإعادة الضبط العظيم إذن مفهوم وبرنامج وتصور شامل لمستقبل الحضارة الإنسانية، بحيث في اعتقاد منظريه، لم تعمل جائحة كورونا إلا على تسريع ما كان يجب العمل عليه بكل جهد، ألا وهو التمهيد لقيام الثورة الصناعية الرابعة، أي ثورة الرقمنة.
صحيح أن الوباء خلف هذا الوجه السلبي، حيث ذهب الآلاف من الضحايا، إضافة إلى الأزمة الاقتصادية الهائلة التي تركها في بعض البلدان الفقيرة، وخصوصاً في الأوساط الاجتماعية الهشة. ولكن مع ذلك كان للوباء وجه آخر إيجابي. فقد كان مناسبة لاكتشاف قيمة وأهمية الخدمات التي توفرها الثورة الرقمية، مثل العمل عن بُعد، الذي صاغ مفهوماً جديداً للعمل خارج جدران المكاتب والحضور الجسدي المباشر. إضافة إلى تغيير مفهوم المدرسة والمدرس التقليدي، حيث إن إمكانية التعلم أصبحت متاحة بدورها عن بعد عبر الشبكة العنكبوتية. وإذن فالوباء مناسبة لإعادة تشكيل المجتمعات المعاصرة، وتحويل دفة الحضارة نحو وجهة أخرى. ومع ذلك ينظر إريك فيرهاغ بعين نقدية إلى هذا التحول التكنولوجي الرقمي، الذي في نظره من الممكن أن يقود إلى استبدال البشر بالآلات، بل إن هذه الرقمنة المفرطة، يمكن أن تقود إلى قيام مجتمع خاضع للرقابة الشمولية. ويمكننا أن نضيف من جهتنا أن الثورة الرقمية، ما تزال إلى حدود اليوم ممركزة في يد الدول القوية، وأننا في حاجة إلى التخلص من هذه التبعية التكنولوجية، من أجل خلق عالم أكثر تكافؤاً.
رأسمالية أصحاب المصلحة
هكذا يهدف مشروع إعادة الضبط الشامل، وفق مؤيديه، إلى وضع أسس جديدة للأنظمة الاقتصادية والاجتماعية، بما يسمح بضمان الاستدامة على كافة المستويات. وهذا الهدف في نظر كلاوس شواب لن يكلل بالنجاح إلا إذا تمت إعادة النظر في طبيعة الأسس، التي يقوم عليها النظام الرأسمالي، طالما أنه نظام يعمل حالياً بطريقة لا تضمن الاستدامة والتوازنات الاجتماعية. وفي هذا السياق، يميز كلاوس شواب بين ثلاثة أنواع من الممارسات الرأسمالية: الأول رأسمالية المساهمين، وهو النمط الذي تشتغل به معظم الشركات الغربية. والثاني رأسمالية الدولة، أي مجمل الأنشطة الرأسمالية التي تديرها بشكل مباشر الدولة مثل ما يحدث في الصين. أما الخيار الثالث فهو الذي يطلق عليه شواب: «رأسمالية أصحاب المصالح» stakcholder. فبسبب البحث الجشع عن الربح من طرف بعض الشركات المساهمة، وإهمالها للطابع الاجتماعي، وكذلك بسبب السيطرة المطلقة للدولة على الأنشطة الاقتصادية في النمط الثاني، كانت الحاجة ضرورية لقيام نمط ثالث، يبحث عن تحقيق الفوائد الربحية ولكن في الآن ذاته باحترام البيئة والمجتمع. إن هذا الهدف يتضح جلياً من خلال التزام هذه الشركات بدفع الضرائب، واحترام حقوق العمال، وكذا تبني رؤية استثمارية استراتيجية تحترم حقوق الأجيال المقبلة. إن كل هذا يدل على أن رأسمالية أصحاب المصلحة، لا تبحث فقط عن مصلحة العملاء والمستثمرين وحملة الأسهم، بل عن مصلحة كل الجهات المتدخلة والمعنية والذين ينبغي بالضرورة صون حقوقهم وتوفير الحماية لهم. وهذا هو ما يمكن أن يشكل العقد الاجتماعي الجديد، الذي ستقوم عليه الرأسمالية في المستقبل. ويرى منظرو منتدى دافوس أن كل هذه التدابير ضرورية، إذا ما أراد العالم تجنب القلاقل الاجتماعية. وباختصار لا يمكن للرأسمالية الجديدة التي يتحدث عنها منتدى دافوس أن تضمن نجاحها إلا إذا احترمت الرأسمال الإيكولوجي، وقبله الرأسمال البشري بطبيعة الحال.
انتقادات
تتركز أهم الانتقادات التي وجهت لمشروع إعادة الضبط العظيم، في كونه يلخص «مؤامرة» عالمية تحيكها بعض النخب الغربية، للتحكم في العالم والسيطرة على الشعوب! وفي هذا السياق يتحدث إريك فيرهاغ عما يسميه بـ: «الالتباس الأساسي لإعادة الضبط الشامل» فنحن لا تعرف في نظر الكاتب، هل هذه الأطروحات المقدمة هنا عبارة عن تنبؤات ووصف موضوعي، بما يمكن أن يحدث في المستقبل، أم أنها تحيزات شخصية، يدافع عنها كلاوس شواب وزميله. وهكذا فالكتاب رغم الطابع الإنساني التعاطفي الذي يبديه، إلا أن ما يطمح إليه في العمق هو وضع البشرية تحت الرقابة والوصاية المطلقة، لحفنة من النخب المتنفذة، التي تريد الدفاع عن امتيازاتها الاقتصادية والاجتماعية.
لقد نظر إلى مشروع إعادة الضبط العظيم، كما لو أنه اسم آخر للنظام العالمي الجديد. كما نظر إلى شواب على أنه عدو الدولة الوطنية، التي يتهمها بعدم القدرة على مواكبة التطورات التي خلقتها الثورة الرقمية.
وإذن فما يخفيه برنامج إعادة الضبط العظيم، وفق المتقدين، هو محاولة تجاوز دور الدولة الوطنية بوساطة تجمعات أو هيئات أكبر منها، مثل الاتحاد الأوروبي أو مثل منتدى دافوس نفسه! ومن منظور العولمة والنظام العالمي الجديد، أصبحت الدولة الوطنية وكأنها عائق ينبغي تجاوزه! أو كأنه يراد للقرارات المهمة أن تمر فوق رأسها!