إميل أمين

مع بواكير النهضة الحديثة في مصر وتولي محمد علي باشا كوالٍ للبلاد، بدأت مرحلة الانفتاح على الغرب الذي كان مقتصراً تقريباً على دول أوروبا الغربية حينها.. وإيطاليا وفرنسا والنمسا منها على وجه التحديد. وكان رفاعة الطهطاوي، ذلك الشيخ المعمم الذي ابتعث إلى فرنسا إماماً لطلاب العلم المسافرين إلى هناك، قد حرك المياه العقلية الراكدة في الثقافة المصرية بالصور والأوصاف التي ذكرها في مؤلفه الشهير «تخليص الإبريز في تلخيص باريز»، ومن بعده كان الطريق قد أضحى واضحاً لكثير من مستكشفي الثقافة الغربية وطلاب المعرفة.
وكانت فرنسا قبلة المتنورين المصريين حينها، وهو ما شجعه محمد علي باشا ومن بعده أبناؤه، وخاصة إسماعيل الذي حلم بنقل الغرب إلى مصر، أو جعل مصر قطعة من الغرب.
وقد رفد إسماعيل مصر بمفكرين ومتعلمين كبار، أضاءوا شعلة جديدة من التنوير في أرض المحروسة، وكان من بينهم علي مبارك باشا، رجل العلم والتعليم الأول في مصر.
وكان حال مكتبات مصر في ذلك الزمن قد تدهور إلى أقصى حد، وغابت المكتبات العامة بعد أن اشتراها بعض الأجانب وسربوا كتبها إلى مكتبات لندن وروما وباريس وفيينا وبالتالي ضاع جانب مهم من ثروة مصر الفكرية.
وفي ذلك التوقيت تنبه علي مبارك باشا إلى ضرورة قيام مكتبة كبيرة تضم شتات الكتب المبعثرة في أماكن متعددة، صوناً لها من الضياع وحماية لها من التبديد، وكان علي مبارك من رعيل العلم الحديث الأول الذين درسوا في فرنسا، وقد تأثر بمشهد المكتبة الوطنية الفرنسية، الحاوية لتاريخ فرنسا والشاهدة على صحواتها وكبواتها. كما كانت الغيرة الإيجابية والتنافس المحمود دافعاً له أيضاً ليفضي برغبته للخديوي إسماعيل، الذي كانت نفسه هو أيضاً مشتاقة لمثل هذا العمل.

قرار الإنشاء والبداية الأولى
وأصدر الخديوي إسماعيل قراراً بإنشاء دار تجمع المخطوطات النفيسة، التي سلمت من الضياع والتبديد، وهكذا خصص الخديوي قصر أخيه الأمير مصطفى فاضل عام 1870 وكان وقتها أكبر القصور كمكان لتلك المكتبة، وكان موقعه في منطقة درب الجماميز بوسط القاهرة.
وبلغت الكتب والمخطوطات والمطبوعات التي وجدت في المكان عند الافتتاح نحو ثلاثين ألفاً، كان أهمها الكتب والمخطوطات التي جمعت من المكتبة الخديوية القديمة، التي يعتقد أنها مستودع الكتب الذي أنشأه محمد علي باشا لتباع فيه مطبوعات مطبعة بولاق.
وبلغ اهتمام الخديوي إسماعيل بأول مكتبة وطنية تنشأ في الشرق الأوسط، والتي عرفت وقتها بـ«الكتبخانة»، أن اشترى من ماله الخاص بمبلغ 13 ألف ليرة عثمانية مكتبة أخيه الأمير مصطفى فاضل باشا بعد وفاته في إسطنبول عام 1876. وبلغ حجم تلك المكتبة التي لم يوجد لها نظير وقتها 3458 مجلداً كلها من نوادر المخطوطات ونفائس الكتب، بينها 2473 مجلداً عربياً و650 مجلداً تركياً و335 مجلداً فارسياً.
وتكونت النواة الأولى لـ«الكتبخانة» الخديوية في مجموعاتها العربية والشرقية من كتب مكتبتي وزارتي الأشغال والمعارف العمومية، كما أضيفت إليها أيضاً مؤلفات متنوعة كانت لدى الحكومة، كما ضمت كذلك المكتبات الخاصة بكبار علماء ذلك العصر ومثقفيه مثل عمر مكرم.
أما النواة الأولى لمجموعتها الأجنبية فقد تكونت من محتويات الجمعية المصرية التي ألفها بعض الأجانب الذين أسهموا في خدمة العلم بمصر عام 1836، وقد أهديت مجموعة كتب هذه الجماعة من العلماء إلى «الكتبخانة» في عام 1873. ومع الاهتمام الكبير الذي أولته الحكومات المتعاقبة لـ«الكتبخانة» وزيادة مساحة التبادل الثقافي مع أوروبا في تلك الفترة.

من درب الجماميز إلى باب الخلق
مع بدايات عام 1844 كان الخديوي إسماعيل قد غاب عن المشهد وحل محله أخوه الخديوي توفيق، وفي ذلك الوقت أيضاً كان رصيد «الكتبخانة» ومحتوياتها قد تزايد ونما إلى حد كبير، ما جعل قصر الأمير مصطفى فاضل الذي قامت داخله الفكرة يضيق بمحتوياته.
وهكذا أصدر توفيق مرسوماً خديوياً بإعداد مشروع لبناء مكان أوسع يليق بحفظ ما في هذه الدار من الذخائر الأدبية والعلمية، غير أن القرار لم يجد طريقه للتنفيذ في عجالة إلى أن طالب الدكتور «برنارد مورتيز» رابع مدير للدار في تقريره الذي رفعه إلى وزارة المعارف المصرية في 24 يوليو سنة 1897 بضرورة الإسراع في بناء موقع جديد للدار، وخاصة أن المحل الذي توجد فيه «الكتبخانة» لا يمكن وقايته بأي طريق من الحريق. كما أنه أيضاً على سعته غير مناسب لوضعها، لأنه لم يبن لغرض إيجاد «كتبخانة» فيه، فضلاً عن كون دوره الأول «البدروم» رطباً جداً مما يسبب ضرراً بالغاً للكتب والمخطوطات. وانقضى عهد الخديوي توفيق من دون أي قرار بتطوير أو نقل مبنى «الكتبخانة» القديمة إلى أن جاء عام 1899 وفيه وضع الخديوي عباس حلمي الثاني حجر أساس «الكتبخانة» الخديوية ودار الآثار العربية في ميدان باب الخلق بوسط القاهرة، مخصصاً طابقه الأرضي لدار الآثار العربية، وطابقه الأول وما فوقه لـ«الكتبخانة» الخديوية، وانتقلت إليه الدار في عام 1903، وفتح أبوابه للمترددين عليها في أول عام 1904، والتي ستنتقل لاحقاً عام 1961 إلى مبنى قائم إلى الآن على كورنيش النيل.

نفائس في الدار - المكتبة
تحتوي المكتبة ما يربو على 57 ألف مخطوط تعد من أنفس المجموعات على مستوى العالم قاطبة بتنوع موضوعاتها وخطوطها المنسوبة ومخطوطاتها المؤرخة.
وبين جنباتها تضم أيضاً أندر المصاحف والمخطوطات التراثية والبرديات والمسكوكات والمطبوعات الأولى التي صدرت في القرن التاسع عشر، وتحفاً نادرة أبرزها نموذج مصغر لقبة الصخرة التي أمر ببنائها الحاكم الأموي عبدالملك بن مروان، وهذا النموذج مرصع بالأحجار الكريمة والجواهر ومحلىً من الداخل والخارج بنقوش وكتابات عربية وفارسية.
كما توجد أيضاً «حبة قمح» كتبت عليها تواريخ حكام مصر منذ عمرو بن العاص عام 641 ميلادية حتى الملك فؤاد الذي توفي عام 1936.
ومن الأشياء الجميلة والنادرة التي تضمها دار الكتب المصرية أول مخطوطة على ورق البردي هي «الجامع في الحديث» وقد كتبها عبدالله بن وهب مسلم القرشي المولود في سنة 125هـ والمتوفى سنة 197هـ، وهو كتاب جامع للأحاديث، مرتب على طريقة المحدِّثين والفقهاء ويشتمل على كتاب الأنساب وكتاب الصمت وكتاب الختم والسلام. وهذه المخطوطة دونت في أوائل القرن الثالث الهجري على البردي، وعثر عليها بمدينة أدفو أثناء إحدى عمليات البحث والتنقيب عن الآثار المصرية.
ومن أندر المحتويات في دار الكتب أيضاً تلك الكتابة المدونة على بيضة لا ترى بالعين المجردة، ولكنها تقرأ بوضوح عند استخدام العدسة المكبرة جداً الموجودة في القاعة أيضاً، وعلى بيضة ثانية قصة سيدنا سليمان حين دخل القدس.
ومن أهم المخطوطات الإسلامية في الدار مخطوط على رق تبين بعد الفحص والاختبار أنه جلد دجاجة في حجم أصغر من كف اليد، وهناك مصحف شريف مكتوب على شريط ورق الكتاب طوله نحو سبعة أمتار وعرضه 13 سنتيمتراً، وتمت كتابته في القرن الحادي عشر الهجري. ويعد مصحف عثمان بن عفان، رضي الله عنه، من النفائس النادرة الموجودة في دار الكتب المصرية وهو مكتوب بالخط الكوفي القديم.

متحف شعبي ومعهد علمي
من أثمن المخطوطات في الدار كذلك مخطوطة بوستاني سعدي شيرازي المكتوبة بخط يد للسلطان «علي الكاتب» سنة 893 هجرية، والنسخة محلاة بالذهب واللازورد والألوان الزخرفية وبها 6 لوحات مرسومة بريشة بهزاد، وأجمل لوحة هي التي توضح روعة مصر وأميرها آنذاك، وبداخلها مرسوم قصة سيدنا يوسف عليه السلام، وخلفه رسم للسيدة زليخة في صورة رائعة.
أما عن برديات مكتبة باب الخلق فإحداها تعود إلى عام 709 ميلادية الموافق 90 هجرية في عهد الحاكم الأموي الوليد بن عبدالملك، إضافة إلى 132 مخطوطاً بالعربية والفارسية والتركية في الطب والأدب والأديان والفلك منها «مشكل القرآن» لابن قتيبة نسخ عام 989، وأعظم ملحمة أدبية فارسية وهي الشاهنامه التي قضى مؤلفها أبوالقاسم الحسن بن إسحاق بن شرف شاه 30 عاماً في نظمها، ويعود تاريخ هذه النسخة إلى عام 1393 ميلادية.
وتوجد النسخة الوحيدة من «الرسالة في أصول الفقه» للإمام محمد بن إدريس الشافعي التي كتبها الربيع بن سليمان المرادي صاحب الشافعي في مطلع القرن الثالث الهجري، وعليها أجازه بخطه بنسخ الكتاب، والمؤرخة في سنة 265هـ، وتعد أقدم مخطوطات الدار على الإطلاق.
والمؤكد أن واقع حال مكتبة دار الكتب اليوم بباب الخلق أضحى يتجاوز فكرة التصفيف والرص، أو التعليب والحفظ للكتب والبرديات والمخطوطات، ليصل إلى فكرة أقرب ما تكون إلى مفهوم المتحف الشعبي من جانب والمعهد العلمي من جانب آخر.