د. عز الدين عناية
ليس تناول تطورات العلاقة بين العالم الإسلامي والعالم المسيحي، والغربي منه تحديداً، بالأمر الهيّن على غير المتخصّص، فالمسار متعرّج ومتداخل في كثير من الأحيان، ما يجعل الكثيرين يحجمون عن متابعته، أو يركنون إلى لغة مستهلَكة في الحديث عن حوار الأديان وحوار الحضارات.
والبيّن أن إدراك مسار التقارب التاريخي بين العالمين وما حصل فيه من تطورات، وما حدث فيه من قطائع، وبالمثل ما تمخّض عنه من مقرّرات، وما بلغه من تأسيسات لدى الجانبين، سواء في «لاهوت الأديان» المسيحي أو في طروحات مفكري الإسلام الجدد بشأن الآخر، هو مبحث حضاري يندرج ضمن معالجة سوسيولوجيا الأفكار ورصد تغير براديغمات النظر، كما يبيّن الكاتب الإيطالي سيمونه كاليفي في كتابه المعنون بـ«‹وثيقة أبوظبي› و›جميعنا إخوة› في مجابهة الإسلاموفوبيا والمسيحوفوبيا».
فليس الكتاب دعوة مثالية، غير واقعية، للتقارب بين المؤمنين من الديانتين، أو مجرّد مجاراة اقتضاها العصر، وإنما هو دراسة تحليلية لمسار فكري ولاهوتي، لا يخلو من مسحة نقدية، وإن لم يُخفِ المؤلف ما يصبو إليه من آمال، وما يراوده من تطلّعات بأنّ هناك عالماً أفضل وأجمل ينتظر الجميع، يسود فيه التآلف بين أتباع الأديان شرط أن تجدنا ظواهر الشر، على غرار العنصرية، وكره الأجانب، والخوف من الأديان، موحَّدي الصفوف، كما يقول.

التعارف والتحاور
وفي البدء ينطلق الكاتب سيمونه كاليفي من معالجة ظاهرتي تفشّي «الخوف من الإسلام» و«الخوف من المسيحية» في الزمن الراهن، بتتبّع هواجس «الفوبيا» داخل أوضاع عالمنا الطافح بالتوترات ذات الطابع السياسي والأمني. فقد نمت الظاهرتان -فوبيا الإسلام وفوبيا المسيحية- داخل واقع الانغلاق المشوب بمسحة الريبة من المغاير والمخالف، ولتتطور كلتاهما في غياب التعارف والتحاور والتشارك. إذ تتغذّى الفوبيا، كما يرى الكاتب، من أوضاع الاضطراب ولا سيما حين تخيم أجواء اللايقين والضبابية.

وثيقة الأخوة الإنسانية
ومن حسن الطالع أن جاءت في أعقاب تلك الأجواء الموبوءة التي خيمت فيها «الفوبيا» على العالمين، الشرقي والغربي، كما يرصد الكاتب، «وثيقة أبوظبي للأخوة الإنسانية» الموقَّعة في الرابع من فبراير 2019، من قِبل قيادتين روحيتين، فضيلة الدكتور أحمد الطيب، شيخ الأزهر، وقداسة البابا فرنسيس، رأس الكنيسة الكاثوليكية، لتعبّر عن نقلة مهمّة في ظرف تاريخي مأزوم، ولتُبيّن في تلك الحقبة التاريخية الشائكة إمكانية التلاقي والتعاون بين العالمين، ولتسفّه الرؤى الصدامية التي ترى أن قدرَ عالم الإسلام وعالم المسيحية الغربية التصادم.
فقد عبّرت الوثيقة عن وعي عميق بالمسؤولية الأخلاقية في عالمنا، رغم سائر مظاهر التدافع الحاصلة بين الأديان. وفي عالم معولَم أضحى فيه جاليات كبيرة من المسلمين تعيش في بلدان ليست مسلمة، ويعيش فيه أيضاً كثير من المسيحيين في بلدان تغلب على أهاليها الديانة الإسلامية، هو بالفعل وضعٌ جديد تداخلت فيه جغرافيا الأديان التقليدية. وأضحى يملي التعاون والتآلف بين سائر المؤمنين، ولبلوغ تلك الأهداف السامية التي شددت عليها الوثيقة كان لابد من ترسيخ ثقافة مغايرة لن تتأتى سوى بالحوار الهادئ والمقاربات العلمية الرصينة.

الشراكة الإيمانية
ويتساءل الكاتب سيمونه كاليفي، ضمن سياق العلاقات الإسلامية المسيحية ما الذي مثّلته «وثيقة أبوظبي»؟ ليبين أن الحوار في العصر الحديث، كأسلوب للتخاطب بين أتباع الأديان، قد جاء بمبادرة من الهيئات الكَنَسية، الغربية منها بالخصوص، بَيْد أنّ الاستجابة لذلك الطلب جاءت من المسلمين، وهو أمرٌ لا يقلّ شجاعة وجرأة، رغم محدودية الإمكانيات والقدرات وتدني المعارف بالآخر حينها التي شابت العالم الإسلامي، أي في مطلع السبعينيات والثمانينيات من القرن الفائت. وأن ما ميز «وثيقة أبوظبي»، كمستوى خطابي لتواصل أتباع الأديان، أنها جاءت بمبادرة من المسلمين، واندراجها بالفعل ضمن براديغم ما بعد الحوار، المتطلع إلى نظام عالمي جديد بين الأديان يسود فيه مقصد التلاقي الذي تطمح الوثيقة إلى إرسائه، أي الخروج من الحوار القولي إلى الحوار الفعلي، ومن الهيمنة العقدية إلى الشراكة الإيمانية. وليس النظام العالمي الجديد للأديان المنشود صيغةً مبتكَرة لدين جديد ولا تقليداً مبتدَعاً، بل هو أسلوب ومنهج لتعايش التقاليد الروحية في زمن باتت تطغى عليه السيولة العقدية.

الثقة المتبادلة
ولربما يتمثّل الوعي الجديد الذي خلّفته «وثيقة أبوظبي» في العالمين، الإسلامي والمسيحي، كما يرى الكاتب، في عمق الثقة المتبادلة، وتشبّث الطرفين بالمبادرة. إذ يدرك الجميع أنّ التوترات الحاصلة في العالم لن تنقضي بين عشية وضحاها، ولكن مجابهتها تتأتّى برصّ الصفوف في جبهة واحدة. صحيح أن أحداثاً أليمة جرت بعد إعلان الوثيقة، في نيوزيلندا وفي سيريلانكا وغيرهما من بقاع الأرض، ولكنها جميعاً أثبتت أنّ مضامين الوثيقة ليست هدراً للوقت في طريق اجتثاث الخوف، وأنها علامة تاريخية مضيئة عبّرت عن قناعة قوية لدى الطرفين الإسلامي والمسيحي. وروح من وثيقة أبوظبي استعادها البابا فرنسيس في الرسالة البابوية العامة «جميعنا إخوة» في الثالث من أكتوبر 2020، بدعوته إلى ثقافة جديدة بين المؤمنين في عالم اليوم.

التعايش بانسجام
وثمة تساؤل مهمّ يثيره الكاتب ألا وهو: هل بالإمكان التعايش بانسجام بين أتباع الأديان وخارج دائرة الريبة والتوجس؟ والجواب أن مدن العالم النشيطة، مثل أبوظبي ودبي والقاهرة والرباط وروما ولندن وباريس ونيويورك وغيرها صارت تعج بصنوف المؤمنين، ويبدو هذا مصير العالم بأجمعه، السائر نحو التعددية الثقافية والدينية.
ويرى المؤلف أن ما بعد الحوار الذي يشير إليه في كتابه قد صار يتوسل التحقق عبر أربع مراتب من التواصل اليوم: تواصل الحياة اليومية دون سعي إلى تغيير هوية الآخر، وتواصل الأعمال من خلال التنافس في الخيرات لصالح البشرية جمعاء، وتواصل الخبراء وهو ما يسعى إليه العلماء لإثراء الرصيد القِيَمي والمعرفي لاحتضان الآخر، وتواصل التجارب الروحية من خلال التطلع الخالص إلى وجهه تعالى.

روح جديدة
لقد بثّت «وثيقة أبوظبي» -كما أبرز الكاتب- في المسلمين والمسيحيين روحاً جديدة بعد أن بلغ التواصل والتعايش مراتب متقدمة. وقد بتنا نرى الإفطار الجماعي في رمضان في الغرب، بين مسيحيين ومسلمين، وتضرعات جماعية في حالات العسرة (جائحة كوفيد) لرفع البأس عن خَلقه، وتعاوناً عملياً في حالات العسرة، وكلها أخلاقيات جديدة بدأت تجد تجاوبا في أوساط المؤمنين.
ويُقرّ الكاتب بأنّ عديد الفترات الشائكة بين العالمين، الإسلامي والمسيحي، في التاريخ السابق، كانت وليدة أسباب سياسية وليست دينية، ومع هذا خلّفت تلك الصراعات أحكاماً نمطية ومخاوف، أضحت تغذّي «الفوبيا» المتبادَلة والريبة المستشرية بين الدينين. ولكن ذلك لم يلغ التواصل بين العالمين حتى في لحظات الصراع والاضطراب. ولكن «الفوبيا» المنبعثة اليوم يمكن تهدئتها كما يرى عبر ثلاثة مستويات من التقارب: تقارب النخب الدينية من الطرفين وهو ما تجلى في لقاء البابا وشيخ الأزهر، وتقارب النخب السياسية من خلال إصدار البيانات المشتركة وتوحيد المواقف للتنديد بما يلحق بالخَلق من أذى، والتقارب القاعدي بين الناس، ولعله الأكثر فاعلية بانخراط الجميع كل من موقعه.

نزع الخوف
لا يُغفل الكاتب سيمونه كالفيني التطرق إلى أنّ مسار نزع الخوف قد خاضه متصوفة وربّانيون وقديسون وفلاسفة ورحالة من الجانبين، وينبغي إيلاؤه العناية اللازمة والنسج على منواله، فهو رصيد زاخر في الحضارتين. فما من شك أن الإسلاموفوبيا والمسيحوفوبيا ترفع كلتاهما جداراً لامرئياً سميكاً بين عالمين، يقوم على رافعة واهية تتمثل في الأحكام المغرضة والصور النمطية الجاهزة.