الفاهم محمد

جميعنا نسمع عن هذه الأسطورة القديمة، التي جاء ذكرها في الكتب السماوية. ويحكي سفر التكوين مثلاً عن أبناء نوح، الذين قاموا بعد حدث الطوفان العظيم ببناء برج واحد، يجتمعون فيه حتى لا يتشتتوا في الأرض، بحيث كان الهدف هو توحيد العالم في مملكة واحدة. وبعض الكتابات تربط بناء هذا البرج بالملك النمرود، الذي أراد أن يطال عنان السماء بفضل هذا البرج! ولكي يصل إلى تحقيق هدفه، بادر بتوحيد اللغة، حتى يسهل التفاهم بين سائر العمال، إلا أن المشيئة العليا لم تكن تريد للبشر التجمع في مكان واحد، بل الانتشار في الأرض من أجل إعمارها. ولهذا السبب حدث أن أصيبوا ببلبلة في ألسنتهم، وتشتيت لشملهم.
ويبدو اليوم أن استعادة هذه الأسطورة باتت مناسبة في زمن الألفية الثالثة، بل أكثر إلحاحاً من أي وقت مضى! ولكن، هل هي مصادفة أن تبلغ هذه الرمزية مداها الأقصى، في التوقيت الزمني بالضبط.. إذ بنيت بابل الأسطورية في الألفية الثالثة قبل الميلاد؟ هل نتحدث اليوم لغة واحدة فوق الأرض؟ وأين يجب أن نقوم بذلك؟ وأين يجب أن نحافظ على الاختلاف والتعدد في الألسن؟
لم يحدث مطلقاً في أي لحظة من تاريخ البشرية، أن عشنا بمثل هذا الشغف الممزوج بالخوف «وحدة الجنس البشري»، ليس فقط أمام أخطار الأوبئة والفيروسات العابرة للحدود، بل أيضاً من خلال الانهيارات البيئية التي تعرفها أمنا الأرض، ومن خلال قطار العولمة الذي انطلق بعيد سقوط المعسكر الاشتراكي، جارفاً معه كافة المجتمعات نحو ثقافة واحدة معممة هي ثقافة الاستهلاك.
ولكن إذا كنا نتجه تدريجياً من أجل التحدث بلغة واحدة على صعيد الثقافة، فإننا لم نتمكن بعد من القيام بذلك على صعيد ما هو أساسي، وما هو أساسي هو الشرط البشري الوجودي. وبطريقة أخرى على رغم وحدة الظاهرة الثقافية المعولمة، إلا أن ألسنتنا مبلبلة ومشرذمة، أكثر من البابليين أنفسهم!
ومما لا شك فيه أننا نعيش في مستهل هذه الألفية الثالثة، وضعية اللااستقرار على جميع المستويات، وكأن اللعنة البابلية تعثر على تحققها الكامل. فالبلبلة والتشرذم يتجليان في الأزمات الاقتصادية، وفي الانهيار البيئي المدوّي. وفي المشاكل الأخلاقية التي يطرحها التقدم التكنولوجي، خصوصاً في مجال الهندسة الجينية، في مخاطر الذكاء الاصطناعي. وفي النقاش الدائر اليوم حول الانفجار الديموغرافي المهدد للموارد الأولية.
وعلى سبيل المثال لا الحصر، نحن لا نعرف إلى حد اليوم كيف نحسم قراراتنا بخصوص الخطر البيئي، بين من يرى أن المشكلة الايكولوجية حدثت بسبب الثورة الصناعية والتدخل البشري السافر في الطبيعة. أي ما أصبح يصطلح عليه بالانتروبوسين. وبين البيئويين الشكاك les climatosceptiques الذين يرون أن ما يحدث من احتباس حراري، لا يعدو أن يكون دورة طبيعية تعرفها الأرض كل بضعة آلاف من السنين.
ولم نتمكن بعد من كبح جماح الزيادة السكانية المهولة، التي نعرفها اليوم من أجل العمل على تخطيط سكاني معقل، يتناسب مع إمكانات الموارد المتاحة فوق الكرة الأرضية.
هذا إضافة إلى معضلة ما بعد الإنسانية، التي تتحدث بحماسة مفرطة عن مجموع التقنيات، التي ستعمل على تعزيز قدرات الإنسان، وترقية إمكاناته الجسدية. في حين يعترض آخرون مؤكدين أن مثل هكذا تعزيزات، ستكون لها آثار وخيمة على الطبيعة البشرية، وأن من المنتظر أن تقود في المستقبل إلى ولادة كيان بشري خطير énergumène وكأن به مساً شيطانياً ناتجاً عن جنون التقنية.
ثم هناك ورطة الذكاء الاصطناعي، الذي ينذر بولادة ذكاء مناوئ ومعادٍ للذكاء البشري بينما آخرون يبشروننا بعالم جديد، تسوده الروبوتات الذكية التي ستعمل على تسيير الحياة بطريقة مثالية، وتحويل الأرض إلى جنة بسبب عصمتها من الخطأ.

الصراع أم الحوار
لقد دافع كما هو معروف فرنسيس فوكوباما وبرنار لويس عن أطروحة «صراع الحضارات». بينما رأى آخرون مثل جون اسبوزيتو، وروجيه غارودي... أنه بالأحرى يجب الدفاع عن حوار الحضارات. والحق أننا نعيش اليوم ثقافياً وإلى حدود بعيدة، في برج واحد. يكفي أن ننظر إلى هذا الانتشار المعمم للثقافة الاستهلاكية، التي أصبحت النمط المميز للسلوكات البشرية في كافة أنحاء المعمورة. أما على الصعيد الحضاري ومآل الكينونة، فنحن بالعكس نعيش في أبراج متعددة، بلبلة حقيقية غير مسبوقة ولم تتم معاينتها من قبل.
بطريقة أخرى نقول، بأن الأمر لا يتعلق بلغات مشرذمة، تسعى إلى أن تترجم بعضها بعضاً بغرض التواصل والتفاهم. فبابل المعاصرة ليست حدثاً لغوياً لسانياً يعيش التنابذ والصراع. طبعاً نحن لا ننكر وجود انقسامات ومماحكات بين الهويات الثقافية، التي وصلت أحياناً إلى كوارث ومآس إنسانية. إننا نعلم أن ثمة صراعات تحركها أحقاد وتراكمات تاريخية. وأحياناً كراهية مقيتة للآخر المختلف، ورفض للانفتاح والفهم والاعتراف المتبادل. غير أنه بغض النظر عن هذه الصراعات، التي تظل معزولة ومدانة على الصعيد العالمي. فإن ما يسود اليوم في مختلف أنحاء المعمورة هو مجموعة من المعايير، التي تتجه تدريجياً كي تفرض نفسها على المستوى العالمي. وإن كانت مثل هذه اللغة الواحدة تواجه صعوبات جمة في التجلي الواقعي المباشر، فهناك شيء يتجاوز اليوم الحدود الضيقة للدول، شيء ينبغي أن نقوله بلغة واحدة، هي لغة الإنسانية ومصير الأرض والحضارة البشرية.

الحدث البابلي المعاصر
والحال أن تشتت اللغات وتعدد الثقافات لم يعد هو ما يفرقنا. فالشبكة العنكبوتية ووسائط التواصل الاجتماعي تعمل اليوم على مد الجسور، بين ما هو متباعد وإتلاف ما هو مختلف. ومما يعزز هذا الوضع عموماً الانتشار الواسع للغة الإنجليزية، كلغة واحدة وموحدة على الصعيد العالمي. فرغم الاختلافات الموجودة بين الهويات الثقافية، إلا أننا نتجه حثيثاً إلى أن نشبه بعضنا بعضاً، بل إلى أن نصبح أحياناً نسخاً متطابقة لنموذج واحد، أضحى يفرض نفسه على الجميع، هو النموذج الغربي عموماً والأميركي خصوصاً.
وإذن فالحدث البابلي لم نتركه وراءنا، بل إننا سنلاقيه أمامنا، خلال هذه الألفية الثالثة. سيبرز كحدث كوني بالمعنى الذي تعطيه الفلسفة المعاصرة للحدث/ باديو، جيل دولوز... باعتباره ليس مجرد واقعة عابرة، بل هو اختبار تاريخي، نوعي وخاص، يستدعي إعادة التفكير في المعطى، والفصل بين ما قبل وما بعد.
وعلينا أن نؤكد هنا أن الحدث الذي ينتظرنا، سيكون تراجيديا بسبب سوء الحظ. فاللغة الواحدة التي نتحدثها اليوم على المستوى الثقافي، هي لغة  تختزل الإنسان إلى مجموعة من الغرائز المباشرة. لغة تشييئية يتحول فيها كل شيء إلى سلعة. إن ما يهددنا حالياً ليس التعددية اللغوية التي أصبحت شيئاً مطلوباً في هذا السياق بل التماهي والمطابقة. فإذا أصبحت كافة الشعوب تتحدث لغة الاستهلاك: كل شيء ينبغي أن يكون قابلاً للبيع، فإن هذا من شأنه أن يقودنا إلى نتائج كارثية!
هل سينهار هذا البرج فوق رؤوسنا؟ بالتأكيد سيحدث ذلك، إن نحن لم نقم بما يلزم. وما يلزم القيام به يقفز واضحاً أمام أعيننا. ففي زمن التسارع والتحولات الجامحة، زمن اللااستقرار وعدم اليقين، يجب علينا اتخاذ القرار اللازم بخصوص الوضعية التي ينبغي أن يتخذها الاختلاف والتطابق. بطريقة أخرى متى يجب أن نتكلم لغة واحدة موحدة هي لغة الأرض ومصير الإنسانية. ومتى يجب أن نحافظ على الاختلاف والتعدد، على مستوى التعبيرات الثقافية والحضارية، وصون هذا الاختلاف والتعدد باعتباره خصيصة لما هو إنساني.
باختصار إننا نعيش في قلب أزمة حضارية ناتجة عن «تأليه» العلم والتقنية، والتفويض المطلق الذي امتلكه، لكي يهيمن على مجمل المعارف البشرية. كما نعيش في الآن ذاته تحت هيمنة ثقافة واحدة، تسعى إلى تنميط الإنسان وتسليعه، وتحويله إلى كتلة غرائز بلهاء. وهنا فقط يمكن للترجمة كما نظر لها ديريدا أن تلعب دوراً مهماً في التعريف باللغات الأخرى واستنهاض القيم المغيبة.