إبراهيم الملا (الشارقة)

تستعرض الدكتورة موزة بن خادم المنصوري في كتابها «رحلة المقيظ في التراث الثقافي الإماراتي» العديد من الظواهر التجسيدية، التي ساهمت رحلات المقيظ من المدن الساحلية إلى المناطق الداخلية في تحويلها إلى فلكلور ثقافي واجتماعي مؤثر وحاضر في القصائد النبطية والمرويات الشعبية، وهو فلكلور عتيق ما زال صداه يتردد في ذاكرة كبار السن الذين احتفظوا في أذهانهم وأرواحهم بالعديد من المشاهد والمحطات والمواقف المرتبطة برحلات القوافل، وحتى بسيارات الدفع الرباعي التي ظهرت أوائل الستينيات من القرن الماضي، عندما أحضرها معهم الإنجليز فترة تواجدهم بالمنطقة، والسيارات الشبيهة الأخرى التي استوردتها شركات التنقيب عن النفط وظلت موجودة حتى أواسط السبعينيات وبداية الثمانينيات المنصرمة. 
وتشير المنصوري في مقدمة الكتاب إلى صورة من المخيال المحلي حول تلك الرحلات القديمة، وتقول: «رحلة عبر الصحراء الإماراتية، تتهادى فيها قوافل الإبل، تعبر في رحلات صيفية سنوية، تنقل سكان السواحل إلى الوديان والواحات هرباً من شدة الحرارة والرطوبة».
مضيفة أن هدف هذه الرحلات هو أن تنعم عوائل المصطافين، بنسائم لطيفة، وتستظل تحت أشجار النخيل والفواكه، في بيوت من سعف النخيل، أعدّت لاستقبالهم في كل عام.
وتؤكد المنصوري أن رحلات المقيظ حملت إرثاً اجتماعياً وثقافياً وحضارياً ثريّاً في دولة الإمارات، زخر بكثيرٍ من أشكال التواصل بين أكثر البيئات الجغرافية تنوعاً وتبايناً، مترجماً وحدة الزمان والمكان والإنسان منذ القدم.
وتوضح المنصوري في كتابها المهم هذا والصادر عن هيئة الشارقة للتراث أن التغيرات المناخية والبيئية المتعلقة بفترة الصيف (القيظ) في الإمارات زمن ما قبل الطفرة، أدّت إلى تنوّع الأنشطة الاقتصادية والمهنية حينها، حيث نجد الرحلات البحرية المتعلقة بالغوص بحثاً عن اللؤلؤ، وتقابلها الرحلات البرّية إلى المصايف المحلية والأخرى الخارجية في سلطنة عمان نحو منطقة الباطنة، وبلدات منطقة مسندم، وغيرها، مضيفة أن عبق هذه الرحلات وقصصها وذكرياتها ما زالت موثقة في الكثير من المرويات والقصائد سواء الشفهية منها أو المدوّنة.
وتذكر المنصوري أن أهل الساحل القادمين من السواحل كان يطلق عليهم المزارعون المستضيفون لهم، اسم «الحضّار» ولهم موسم معروف منذ يوم وصولهم وحتى رحيلهم، وكان الدليل الذي يقودهم يطلق عليه اسم «الجري» أو «الكري» أي من المكاراة أو الإيجار، والمكاري هو البدوي الذي يأتي بالمطايا لأهل الساحل ويؤجرها عليهم في رحلة المقيظ، ويكون هؤلاء «الجري» عارفين بالدروب وبالمطايا، وعارفين بالغناء «السيع أو الحدا» لتسلية المسافرين أثناء توجههم لمناطق «المقيظ» البعيدة.
وتشير المنصوري إلى أن المرأة الإماراتية كان لها دور حيوي وكبير في رحلات المقيظ، حيث أثبتت تميّزاً وقدرة على القيادة، فهي صاحبة الرحلة، ومهندستها، منذ بدايتها وحتى نهايتها.

تجليّات شعرية 
توضح المنصوري في الفصل الخاص بالطبيعية الجغرافية والمناخية لدولة الإمارات، أنه رغم اختلاف هذه الطبيعة الجغرافية وتوزعها، إلا أن هذا التوزيع لم تنتج عنه انقسامات نفسية في بيئة المجتمع، بل بالعكس جاءت الجغرافيا لتوحّده، وليكمل بعضه بعضاً، وهذا ما جعل مجتمع الإمارات يحظى بمجموعة لا يستهان بها من الخبرات، لتشمل بيئات مختلفة، بدءاً من الساحل، ومرورا بالبرّ، ووصولا للجبال.
ونوّهت المنصوري في كتابها أنه في القرى والوديان الزراعية، كانت هناك صورة جميلة لظاهرة مهمة من مظاهر موسم الصيف من كل عام، امتدت على مدى مئات السنين ولم تتوقف إلا قبل أقل من ربع قرن من الزمان فقط.
وعن تجليّات المقيظ في الشعر النبطي الإماراتي، تورد المنصوري العديد من القصائد المنظومة في هذا السياق، والموثقة لظواهر اجتماعية كانت سائدة، ولمدارك جمالية، وانفعالات عاطفية، اختزنها الشعراء وأطلقوها في أبيات مزخرفة بالمعاني ومطرّزة بالصور والتفاصيل.