إبراهيم الملا

تستظلّ الفلسفة بالحكمة، وتستقي من عمق المعرفة ما يعينها على تفسير الحياة وإضاءتها وتضمينها بالمعاني القابلة للتجسيد، إضافة لإمكاناتها في بث الفيوض الفكرية المتاحة للتحليل والتعيين والنظر؛ ولذلك قال اليونانيون القدماء عن الفلسفة، إنها «أم العلوم»، ووصفها المسلمون بأنها «أشرف العلوم»، لأنها تقدم إضاءات وتوضيحات عقلانية ومقبولة لأصل الطبيعة والوجود والإنسان.
كما استوعبت الفلسفة الواقع الملموس والأفكار المجرّدة معاً، فصارت بذلك مسلكاً ومنهجاً للرؤية الكونية الشاملة، بعيداً عن الأنساق المتشدّدة والفهوم الضيقة التي روّجت لها بعض المرجعيات المنغلقة، والتوجهات المتعصّبة، والمجموعات البشرية المنطوية على ذاتها وفي ذاتها.
وانطلاقاً من هذا التوصيف المكثف لمنابع ومآلات الفلسفة، وقدرتها على صنع جسور محبة وتعايش، وتهيئة آليات ورؤى ترتقي بالمجتمعات الإنسانية وتعمل على تطويرها حاضراً ومستقبلاً، فإن إنشاء مظلّة فكرية وتنويرية جديدة في دولة الإمارات، متمثّلة في «بيت الفلسفة» بإمارة الفجيرة، يؤكد على المكاسب التنموية الثقافية، تنمية الإنسان وملكاته ووعيه وقدراته النقدية، باعتباره العنصر الأساس لكل فعل خلّاق وإبداعيّ ومُبتكر، كما أن إطلاق «بيت الفلسفة» يواكب الروح المنفتحة لأهل الإمارات قديماً وحديثاً، هو مشروع واعد بمضمونه وطموحه، من أجل خلق حالة ثقافية وإنسانية مبهجة ومستدامة في الدولة.

لماذا الفلسفة؟
وللتعرف على الدوافع والمنطلقات التي بلورت التجسيد العملي والتنظيمي للمشروع، طرح «الاتحاد الثقافي» سؤالاً مجدداً على الدكتور أحمد برقاوي، عميد بيت الفلسفة، هو: «لماذا بيت الفلسفة في الفجيرة»؟
فأجاب: «الفلسفة، كما يعلم الجميع، مبحث عزيز، ومبحث قديم، ومبحث هاجسه الحقيقة، ولهذا ليس مصادفة أن أطلق الفلاسفة على هذا المبحث علم التفكير الصحيح»، ذلك أن: «الفلسفة بحث عن الحقيقة، ولأن الحقيقة ليست بالضرورة ظاهرة للعيان، فإن الفلسفة كشف عما وراء الظواهر، ولهذا فهي علم الماهيات بل قل إن الفلسفة فضلاً عن هذا: علم السؤال الصحيح»، مضيفاً: «ولأن الفلسفة هذا كله فقد كان من الضروري أن يكون لها بيت في الإمارات العربية المتحدة في الفجيرة».

  • أحمد برقاوي متحدثاً في إحدى الورش التي نظمها بيت الفلسفة بالفجيرة (من المصدر)

وعن الآليات الإدارية والإجراءات المعرفية التي سعى بيت الفلسفة لتطبيقها عمليّاً في المجتمع المحلي استناداً إلى الأهداف والتطلّعات التي اعتمدها وارتكز عليها؟ 
قال برقاوي: «إن المتتبع لنشاط بيت الفلسفة في الفجيرة خلال عام واحد يدرك الهم الوجودي المرتبط بفاعلية الإنجاز الذي عبّر عنه الانتماء للوعي الفلسفي»، مضيفاً أنه «لأول مرة في تاريخ الإمارات يحتفل في بيت الفلسفة باليوم العالمي للفلسفة، وهو الاحتفال الذي أقيم في مدينة الفجيرة 18-19 نوفمبر العام الماضي، وهذا يوم أعلنته (اليونيسكو) لما للفلسفة من أهمية في إنتاج الوعي المطابق. وكان الاحتفال باليوم الفلسفي في الفجيرة يوماً عظيماً شارك فيه عدد من الفلاسفة العرب وقدموا أبحاثاً ذات ارتباط بأسئلة ناتجة عن الوعي العربي بالذات».

الوعي بالواقع
وأشار برقاوي إلى أن هاجس بيت الفلسفة منصبٌّ على امتلاك الوعي بواقعنا العربي، وامتلاك الوعي بصيرورة العالم، مضيفاً: «ليس هذا فحسب فعلى هامش هذا المؤتمر عقدت ورشة فلسفية للشباب»، موضحاً أن القائمين على هذا الصرح الفكري استطاعوا في فترة قصيرة جداً أن يصدروا العدد الأول من مجلّة: «بيت الفلسفة»، وقال: ما كان لهذه المجلة أن ترى النور لولا التعاون السريع من قبل الزملاء -الفلاسفة في الوطن العربي الذين نظروا لبيت الفلسفة في الفجيرة نظرتهم إلى بيتهم الخاص وليس مصادفة أن يكون المحور الأول لهذه المجلة هو محور: «التنوير».
وأضاف برقاوي: «تعزيزاً لبيت الفلسفة ودوره العربي والعالمي تشكلت في رحابه حلقة الفجيرة الفلسفية التي ستنهض بإبداع خطابها الفلسفي الخاص المرتبط بأجوبة كلية عن مشكلات معيشة وأسئلة حاضرة وتحديات ملموسة».

منحى فكري جديد
وفي سؤال يتطرق للمنهجية التي يعمل من خلالها «بيت الفلسفة» من أجل نشر الأفكار المستنيرة والتوجهات العقلانية؟ أكد برقاوي أن تعميم الوعي الفلسفي يعني مدّ الناس بمنطق التفكير ومناهجه من أجل تجنب كل أشكال اللاعقلانية والتعصب.

عودة.. بعد غياب
وفي سؤال عن مدى التعاون بين بيت الفلسفة في الفجيرة وبين الهيئات الأكاديمية والتعليمية بالدولة، لتكريس الوعي الفلسفي مبكراً لدى الطلبة والدارسين، وتضمين المباحث الفلسفية في المناهج الدراسية؟ أوضح برقاوي أنه مع قيام دولة الإمارات العربية المتحدة وبدء نهضة الإعمار والتنمية والتقدم وتطوير التعليم وإنشاء الجامعات، كانت الفلسفة حاضرة في مناهج التعليم الثانوي وفي كليات الآداب في جامعة الإمارات، وحصل أن جاءت فترة لم تعد الفلسفة حاضرة لسنوات طويلة. مضيفاً: ومن ثَمّ تمّ الانتباه لغياب الفلسفة بوصفها مبحثاً مهماً من مباحث التفكير العقلي فصدر قرار بإعادة تدريس الفلسفة، كما تم تأسيس كلية الآداب والعلوم الإنسانية بأبوظبي وافتتاح قسم الفلسفة في هذه الكلية، وفي هذه الأثناء نشأت في إمارة الفجيرة فكرة تأسيس بيت الفلسفة. وبرعاية سمو ولي عهد الفجيرة افتتح بيت الفلسفة بوصفه مركزاً للنشاط الفلسفي، وبوصفه الحالة الأولى في دول الخليج العربي بل وفي الوطن العربي عامة.

إحياء التفكير النقدي
وعن الأهداف التي يسعى من خلالها بيت الفلسفة لإعادة إحياء التفكير النقدي والتحليل الجمالي لدى الجيل الجديد من المثقفين والمبدعين بالإمارات، وكذلك البحث في مسائل ملحّة ومقلقة تعاني منها أوطاننا العربية، مثل: تهميش المرأة، وتراجع دور البحوث العلمية، وغير ذلك من القضايا، من أجل تجاوزها فكرياً وثقافياً، وإيجاد حلول مستقبلية لها، قال برقاوي: «إن بيت الفلسفة كما أشرت مؤسسة تسعى لنشر الوعي الفلسفي ليس في دولة الإمارات العربية المتحدة فحسب بل في أقطار الوطن العربي كافة. وانطلاقاً من هذا المبدأ النبيل وتأسيساً على أهمية الفلسفة بوصفها علم التفكير تحددت أهداف بيت الفلسفة كما هو آتٍ: إصدار الكتب والكراسات الفلسفية التي تحقق الهدف الذي أشرنا إليه في نشر الوعي الفلسفي إذ لا يمكن الحديث عن التنوير والحداثة والإنسانية والتسامح دون وعي فلسفي بهذا كله، إضافة إلى عقد سلسلة محاضرات فلسفية متعلقة بامتلاك الوعي بالواقع سواء كانت محاضرات مباشرة أو عبر «الإنترنت»، وإصدار مجلة دورية فصلية بعنوان «بيت الفلسفة» تكون لسان حال الفلاسفة العرب أينما كانوا، وكذلك عقد المؤتمرات وحلقات الفلسفة بشكل دوري في مدينة الفجيرة وغيرها من مدن دولة الإمارات العربية المتحدة.