ساسي جبيل (تونس)

ظل الشاعر الغواتيمالي أمبرتو آكابال مدهشاً بإيقاعه الفريد المختصر والمكثف، في محاولاته تهجّي طريق الإلهام والإبداع، وهو يتناول الطبيعة معرضه الحي بعينه الطفولية وموهبته الكامنة في الروح.. والسؤال: ما سر هذا الشاعر الذي يخط ارتسامات أبدية تنفذ إلى العمق وتحلق في آفاق فكرية، تُؤسْطر حكاية إنسان معاصر يتنفس هواءً مغايراً مزدحماً بالتشكيل، مقتفياً أثر الصيد، كما كان أجداده الهنود الحمر يفعلون في الغابات المطيرة؟.. وينتمي أمبرتو آكابال (1952 - 2019) إلى شعب المايا - كيتشي، وظلّ يكتب بلغته الأم ثم يُترجم أشعاره بنفسه إلى الإسبانية طوال حياته.
أصدر مجموعته الشعرية الأولى «القطيع» عام 1990، ليصدر بعدها بثلاث سنوات مجموعته الثانية «حارس الشلال»، وتوالت بعدها إصداراته الشعرية، مثل «كلمات تنمو»، و«أوراق.. أوراق فقط»، ومختارات بعنوان «نسّاج الكلمات»، إلى جانب مجموعات قصصية عدّة، بدأ نشرها منذ مطلع الألفية الثالثة، منها «الصراخ في العتمة» (2001)، و«على هذا الجانب من الجسر» (2006)، فضلاً عن العديد من المقالات مثل «صليب المايا» (2015)، و«طقوس المايا» (2018).

شاعر بالفطرة
آكابال شاعر بالفطرة بعيد عن الثّقافة رغم ما اطلع عليه من مدوّنات أدب اللّاتين المشهورة، غير أنّه كان وفيّاً لجسد الرّاقص البدائيّ وهو يعاضد ثورة شعر وهوية بكلمات قد لا تملأ الصّحن، ولكنّها تسع البحر والسّماء في تحفيز للسّرد والوصف يكاد يختنق من شدّة الكتمان.. هكذا هي الكتابة الأصيلة تبقى محفورة أوشاماً زرقاء يفوح منها عطر «المايا» وسكون العاصفة وخداع المدار..!.

يقول آكابــــال: 
في المعابد 
لا نسمع
 غير صلاة الأشجار 
وقد صارت مقاعد!..
ومن هذه الكلمات يذهب الذهن إلى سؤال التكوين داخل العقل الباطني الشعري لدى آكابال، وهو يطوع صلصال فكرته واللغة منقادة وهي تزخرف الشكل، فهي تابعة، مقتضاها حركة داخلية تلخص الحنين إلى الجذور وجغرافية المكان.
ونصوص هذا الشاعر قصيرة ولكنّها طويلة العنق تطلّ على جرح غائر في وجدانه، حرارتها تسري بشراهة لا تحدّ، لغة متدفقة كسكون ظلاله في المسير وقد بدأت السماء تمطر، يقول:
أن تحفرَ الأرض بيديك، أن تتضمّخ بعطرها
أن ترفع وجهك إلى السماء
وتتنسّم الهواء
ذاك هو السلام، 
أجابت الجدة..
***
شجرة
يا شاعرة، 
يا كتاباً أخضر
كم من الشعر بين أوراقك
كل من حطّ على أغصانك
صار من المغنّين.
كيف يُعرف هذا الشّاعر؟ الحدس قوام مشغله واللّسان دفاع عن شعبه المايا.. بكلمات تكبح الجماح وتلتصق بها الذّات الشاعرة الملتحفة بلحاف الأشجار وهو يدوّن على قرطاسها رحلته كعرض جامح وعزف بالكلمات، حارساً شلال ذكريات ثقافة الأسلاف النازفة. 
أصوات الأسلاف
في أصوات الأشجار العتيقة
أعرف أصوات أسلافي
حارسة العصور
أحلامها تسكن الجذور
عندما كنت حبلى، 
بانتظار مجيئك، 
كنت أشتهي أكل الأرض، 
أُفتِّتُ قطع الطوب
وآكلها.. 
اعتراف أمي هذا
حطم قلبي
رضعت لبن الطين
ولهذا فإن لِجلدي لونَ الأرض..
ويتعالى النسق الشعري في نصوصه متواطئاً مع هموم ونزعات النّفس الغائرة.. هو ذا أمبرتو آكابال يدافع بالشعر عن قضاياه، يحمي حماه من التردّد والاغتراب في ظلّ ما يشهده الحال من تعليب وتسليع وتغييب لثقافة الهنود الحمر: 
العدالة لا تتحدث
لغة الهنود الحمر
العدالة لا تهبط حيث يسكن الفقراء
العدالة لا تنتعل الأحذية التي ننتعلها نحن الهنود الحمر
ولا تمشي حافية القدمين على دروب هذه الأرض 
ليالي حالكة، 
عميقة وقصية..
****
للعتمة سحرٌ يجعل الأصواتَ البعيدةَ أقرب
ويجعلُ أصغرَ الأشياءِ عظيمة
يسقطُ المطرُ، يبلِّلني، 
 ذاكرتي تسير القهقرى، تتراجع حتّى تعثر على روح الطفل فيَّ، تنسجم العتمة مع هذا الأمر
 ****
طائرٌ بلا جناحين أنا، 
لا أحطُّ أبداً، لأنَّني معلَّقٌ في الهواء
شعلةُ دَمنا تضطرمُ
لا تقوى على إِخمادها
ريحُ العصور 
 ***
ما تركوه لنا من أرضٍ، 
منحدراتٌ
ووديان، 
تغسلها شيئاً فشيئاً زخّاتُ المطر
وتجرفها حتَى السهول
التي لم تعد لنا
وها نحن هنا، 
نقف على ضفاف الدروب
بنظرةٍ تكسرُها دمعةٌ
ولا أحد يرانا..