بقلم: تيفان لوغال
ترجمة: أحمد حميدة

«كنت أعتبر دوماً أنّ الفراغ هو القضيّة الكبرى. الفراغ.. بمعنى الغياب، الصّمت، البياض، العدم.. اللاّشيء، اللاّوجود..».
لا أحد كان يحدّثنا عن ذلك لأنّنا كنّا محبطين وسذّجاً. ومع ذلك.. فإنّ وجوه الفراغ المتعدّدة تحتاج دوماً إلى التّطويع. إنّنا نحدّق فيه أو ننحني أمامه بوقار.. نتأمّله من أعلى ونتظاهر بتجاهله. فللفراغ سطوة ونصيب من الظلّ والضّياء، إنّه معرفة حدسيّة أحياناً ما نكون بإزائها في حالة تخبّط، وأحياناً ما نتفاعل معها، إنّه تلك العين المشرقة التي تكشط زوايا الرّوح، وهي تتأهّب لتتشرّبك وتمتصّك وتلتهمك.
إنّه يتجذّر في قلب الوعي بالذّات: يخمّن الاستبطان حدوده ولكن دون محاصرة غموضه. أمّا الميتافيزيقا، فإنّها تمسك به بكلّ جسارة، ولكن دون التوصّل إلى توصيف جوهره وتعريف مادّته. فيما أنّ الأدب، وهو الذي يتلمّس الغياب بالكلمات، فقد رفعه إلى مرتبة المفارقة.
ومن ناحيتي، فقد خصصته بكتاب، وكنت أعتقد مبتهجة أنّني قد حسمت أمره. ودون أن آمل في التشبّث به، كنت أعتقد أنّي قد دفعت له إتاوته، وأنّه قد بات بإمكاني المضيّ إلى شيء آخر سواه.
ثمّ التحق بيَ الصّمت وأكرهت على المكوث حيث كنت. كان لزاماً عليّ تحمّل ذلك الصّمت والترقّب.. والجلوس، لمشاهدة عدو زرقة السّماء وهي تكثّف بلا حدّ التّراخي البطيء للنّهار، وتحلّله في فتور ساكن، هو حتماً ليس بالموت، ولكنّه لم يعد تماماً هو الحياة.
وفي يوم كنت أحاول الخلود فيه إلى الرّاحة، مددتّ يدي وأمسكت مصادفة بـ«الكتاب الآتي» لموريس بلانشو.
لم يسبق لي أن قرأت بلانشو من قبل. طبعاً، كطالبة قديمة بالسّربون، كنت قد اِستأنست في سالف الأيّام بأفكاره، فكان يبدو لي أنّه من أولئك الكتّاب الذين سمعت عنهم الكثير حدّ أنّني لم أعد لأحتاج قراءته، وكنت.. من نظريّاته عن الصّمت، قد اعتقدتّ أنّني قد أمسكت بخافية السرّ في فكره. ثمّ غشيتني حالة من الرّيبة بسبب اسمه ذي المكانة المشبوهة: فكيف يكون له مثل ذلك الاسم اللاّئق، بلنشو.. وسخّر حياة بأكملها لتحليل الصّمت.

  • موريس بلانشو

الكتاب الآتي
فتَحتُ حينئذ «الكتاب الآتي»، ذلك المؤلّف الزّاخر بالتفكّر في الإمكانيّات المتاحة للأدب وفي مقاصده ومستقبله الميؤوس، وفجأة.. سرَتْ في أوصالي هزّة مباغتة، أحدثها فيّ تصادف فكريّ مدهش، من المبدأ المؤسّس (سيادة الصّمت في الخطاب الأدبي) إلى التأمّلات الطّفيفة في اللّغة، وكان كلّ شيء مصوغاً بلغة مظفّرة، صارمة وصادمة، وفقها كان كلّ شيء يتشكّل بأسلوب رشيق وشفّاف.
سواء تعلّق الأمر بالتّرخيم أو بالتّجزئة، بالضّمنيّ أو بما يندّ عن المقول، فإنّ الأدب يتوق إلى شموليّة غائبة، وإلى التّآلف مع فراغ تعيد تلك الشّموليّة رسمه، على غرار الرّاقص الذي يعيد تشكيل مجمل الفضاء الذي يحيط به. لذا.. فعلى سؤال «إلى أين يمضي الأدب؟»، يجيب بلانشو قائلاً: «يمضي الأدب نحو ذاته، نحو جوهره الذي هو زواله»، فيما سيتحدّث بلانشو بعد ذلك عن «مجال حرّ لخيارات متعدّدة»، وفي عكس اتّجاه المبادئ الأرسطوطاليسيّة الكبرى، سيشير إلى ما تحمله التّجربة الأدبيّة من انحراف عن هدفها: «إنّها مقاربة ما يكون متفلّتاً عن درجة الاكتمال».
فما بين امّحاء وتشتّت، يتبدّى تاريخ الأدب وكأنّه حالة انحراف. فالأدب يكون دوماً مكتملاً، غير واع بذاته وبحركته، لا يعلن، ويتّبع الدّرب المتغيّر الذي رسمه له أصحاب الأقلام اللاّمعة. ويبدو اندهاش بلانشو أمام عبقريّة كتّاب كان يعشقهم، ملموساً، ومع ذلك.. ثمّة عنده ما يشبه حالة التحفّظ وتفنّن في وضع نقاط التّعليق. لأنّ كلّ شيء تمّ إنجازه، والأدب الذي يحمل مبرّر وجوده لا يسمح بأيّة إضافة جديدة تكون عقيمة وبلا جدوى. لذا.. يكون كلّ عمل أدبيّ جديد غير ممكن.
وإلاّ.. وجب أن يكون ذلك العمل «عملاً غائباً»، ولعلّ الأمر كان كذلك مع العبقريّ جوبار المقرّب من شاتوبريان وديدرو. وكان هذا الفيلسوف الأخلاقي قد ادّعى طيلة حياته أنّه بصدد تأليف كتاب ذي طموحات شموليّة، ولكنّه في النّهاية آثر التخلّي، مبرّراً ذلك بأنّه «لم يعثر على شيء يكون أفضل من الفراغ». فالعمل الإبداعيّ الحقيقيّ هو ذاك الذي يظلّ في عالم نسيان المثال، دون مجابهة حقيقة اللّغة وعيوبها وحدودها.
وكلّ ما تبقّى يكون قد مرّ عبر غربال النّظرة الصّارمة التي لا تقبل التنازل، نظرة النّاقد. وماذا عن دفتر اليوميّات؟ «إنّه المرساة التي تكشط في عمق اليوميّ، وتتشبّث بخشونة الغرور». وماذا عن فنّ الحوار لدى الكتّاب الأميركيّين الجدد؟ إنّه نصّ ضمنيّ تشكّل من «تفاهة معبّرة» تعمل بشكل مجوّف في غياب الكلام.
وفي النّهاية يكون العمل الوحيد الجدير بالإسعاف هو ذلك الذي يشذّ عن تأريخه، عن تأثير زمنه، وعن محاولات تجديده: «أن يكون المرء فنّاناً، فإنّ ذلك يعني ألاّ نعلم بأنّ ثمّة فنّاً بعد، وأنّه ليس ثمّة من عالم بعد».
وبوسعنا أن نضع تلك الفكرة في سياقها، سياق «الرّواية الحديثة»، ولكنّ ذلك يعني أن نكون قد تخلّينا عن بقاء مسألة الفراغ، وعن الأسلوب الذي تُساءل وفقه الأعمال الأدبيّة منذ البداية، أي علاقة الكلمة بالصّمت، أي من منظور آخر، علاقة اللّغة بالعالم الذي تتولّد عنه وتومئ إليه. وتلك مفارقة صارخة للأدب تجعل من الصّمت الغاية السريّة للكلمات، أن تكون «ليلاً في عزّ النّهار» كما كتب ذلك ليفيناس، الصّديق الأثير لبلانشو، بخصوص «توماس الغريب».

تأنيب النّاقد  
كضليع في فنّ التّعليق، حاول بلانشو بأسلوبه السّاخر تأنيب «النّاقد الذي بالكاد يقرأ»، هكذا «متخلّصاً بسرعة من بساطة الكتاب، لتحلّ محلّه وجاهة الفكرة». فهل يكون ذلك تحذيراً يوصينا بألاّ نمنح الكثير من المصداقيّة لآرائه الخاصّة؟ إنّه لمن باب المؤكّد أنّ فعل القراءة وفعل الكتابة عند موريس بلانشو.. متلازمان، لأنّ التّعليق الذي تطبّق فيه كلمات على كلمات أخرى، يكشف جماليّة النصّ، فهو الذي يبسط معناه، ويكشف عن مدى عمقه. ولكن، ألم يحدث أن تكونوا قد مررتم بجانب نصّ استثنائيّ، وشعرتم عند قراءته بما يشبه الإحساس بالعزلة، عزلة مردّها إلى كتامة اللّغة؟ إنّ التّعليق.. حين ينفذ إلى رحم العمل الأدبي، ويكشف عن المنبع الأصيل الذي يستمدّ منه جوهره، ويرفعه إلى منزلة الأسطورة، لَيأخُذك من يدك ويفرك عينيك المتعبتين، ويدعوك إلى أن تلقي على النصّ نظرة جديدة وجديرة بالاهتمام.
وإنّي لشديدة التأثّر بذلك النّاقد الجامعي الذي يكون في خدمة فكر منسوب لأدباء آخرين: ويكمن تواضع مهمّة هذا الأخير في كونه في تمحيصه للنّصوص يذهب حدّ الامّحاء، كيما يكشف عن مكنونات ذلك الفكر. فبريشة هذا النّاقد أو ذاك، يستعيد العمل الأدبي سطوته، ويتسربل بلباس يكون أكثر إبهاجاً وألقاً. وفي الظّلمة يتمّ ذلك العمل! لأنّه عمل متوان وسريّ، يكشف، من حيث فرط القراءة المتبصّرة والمتيقّظة، عن سرّ يتجاوز الفعل الأدبيّ البسيط، ليلامس هويّتنا الأعمق، ويمسك بالنّواة الصّلبة لإنسانيّتنا. إنّه ليشبه العمل الانفراديّ الصّموت للخادم وهو يلمّع الأواني الفضيّة، فهو رولان بارت حين يكتب عن راسين، وجان ستاروبينسكي حين يكتب عن مونتاني، وموريس بلانشو وهو يكتب عن مالاّرميه.
فالنّاقد الأدبي هو ذلك الكاهن الرّصين والمتواضع الذي يقوم بجرد النّصوص وشرحها. وفيما يكون القارئ مستشعراً لتلك النّصوص والمؤلّف مفصحاً عنها، يكون النّاقد قيد العمل. إنّه يعمل على استعادة معنى النصّ بإخراجه من ذاته. والمادّة التي يكون بصدد تشكيلها لا تكون حينها هي اللّغة، كما تكون الحال مع الكاتب، بل هي الصّمت.
وينغمر النّاقد في صمت النصّ ليستخلص منه المعنى، وكي يعيد للعقل ما رشح من انفعال جماليّ محض، وكلّ ما يكون مستعصياً على التصوّر. ويكون التّعقيب في ذات الوقت، أداة لتحقيق الوفرة، ولما يشيه البرميل المثقوب الذي لا يحتفظ بما يكون قد انسكب داخله، منّة ولعنة ! وعلى قدر تمدّد المعنى، سندرك مدى عجزنا عن استنفاد المادّة بأكملها. إنّها مسرّة الظّفر بخصوبة لا حدّ لها، وحتميّة ألاّ نتوفّق في الإمساك بما نحبّ.

غواية اللغة
أقرأ بلانشو فتتأكّد لديّ فكرة عدم ملاءمة اللّغة وإخفاقها الثّابت، بل وحتّى خيانتها. ولكن.. كيف لنا ألاّ نستسلم لتلك النّشوة التي تجلد أعصابنا في تلك اللّحظات التي تومض فيها حالة من التراسل، أو حالة من التّواطؤ العميق أو من الانجذاب؟ فهذا أخيراً أديب قد فكّر وصاغ بكلمات شفّافة ما كان ينمو بداخلنا بصورة غامضة في خضمّ الفوضى التي تميّز الفكر. ولكلمات بلانشو مثل هذا التأثير: إنّها تغوص في قلب الحدس ذاته، في عمق التّنافر وفي حالة التقبّض. وقبل أن يكون وسيلة للتّعبير، يكون الفعل الأدبيّ محاولة للتّحاور، حركة للذّات تستهدف الآخر، مجال تنقّل حرّ في مجال تشابك تعقيداتنا الفرديّة. وفروة الهرمونيطيقي التي ينبغي تدليكها والتي هي الصّمت الأدبي، فإنّ بلانشو يراها مماثلة لتغريدة حوريّات البحر: تغريدة يكون عيبها هو قدرتها على الإغواء، فيما تجعلها قسوتها ساحرة ولا تقاوم. إنّها تغريدة عديمة الرّحمة تحاكي تنافر البشر، وتكون مضلّلة للملاّحين. إنّها تغريدة حقيقيّة وشائعة، صريحة ويوميّة (...) ترتّلها بصورة زائفة قوى خياليّة.. إنّها تغريدة الهاوية، المتلفة، التي متى تمّ الإنصات إليها، فتحت في كلّ كلمة هوّة، ودعتنا بقوّة إلى الامّحاء داخلها.