إبراهيم الملا
أجساد محمّلة بكثافة رمزية، وشخوص هائمون بحضور مُلغِز، يتجولون بملامح شائكة وملابس رثّة أثناء توافد الجمهور إلى قاعة العرض، ما يجعل المكان مكتسياً بغرابة محفّزة على الأسئلة، ومُنتِجة لدوائر العجب، حتى قبل اندلاع شرارة العرض، أسئلة مثل: ما الذي يحدث؟ أي ميكانيزم مرئي هذا، قادرٌ على خلخلة الرؤية ذاتها وتشويش التعيين في مركزه؟ ولماذا التقط الممثلون خيوط اللعبة المسرحية مبكراً؟ هل صار الجمهور شريكاً في هذه اللعبة، وركناً أساسياً فيها؟
هكذا تفاجئك المسرحية الإماراتية «أشوفك» للكاتب إسماعيل عبدالله والمخرج حسن رجب، بصيغة متجليّة من الإبهام، لتقول للجمهور بصوت عال: «أشوفكم» فانتبهوا مما هو قادم، واستعدّوا لحفلة الجنون الإبداعي على خشبة المسرح، قبل أن يبدأ الممثلون في إطلاق اللحظة الأدائية الصارخة، حيث نراهم يتسللون خلف الحضور لا أمامهم، ويشكلون العتبات الأولى للعرض من خارجه لا في عمقه، إنها اللعبة التي يجيد المخرج حسن رجب تغيير قواعدها في كل عمل جديد له، متجنّباً التكرار، ومتشبّثاً بالابتكار، وخصوصاً أنه مشتبك هنا مع نص شاهق للكاتب المستفيض ألقاً: إسماعيل عبدالله، نصّ محتشد أيضاً بذاكرة متوقّدة، وبإمكانات عالية، وبلاغة شعبية، ولهجة صافية، وتنويعات غزيرة، وجرأة تفقأ عين الخوف.
مسرحية «أشوفك» من إنتاج مسرح أم القيوين الوطني، وكلمة «أشوفك»، هي صيغة تحذير متداولة في المنطوق الشعبي، فترة الخمسينيات وما قبلها، وكان يستخدمها حراس الأبراج المحيطة بالحصون المحليّة القديمة والأخرى المشيّدة عند مداخل المدن، وخصوصاً عند اقتراب الغرباء والشخوص المجهولين منها.
ويتناول العرض الأجواء الغرائبية المحيطة بمجموعة من المجانين في ملجأ أو «معزل» بعيد يقع على أطراف المدينة كنوع من الإقصاء والتهميش والعقاب الجماعي، يقودهم حارس برج تم وصمه بالجنون وغياب العقل، لأسباب سيكشفها العرض في نهاياته، وتحيلنا هذه الصورة الجماعية للنبذ والتخلّي والإبعاد بسفينة الحمقى التي ذكرها الفيلسوف الفرنسي «ميشيل فوكو» في مؤلّفه الاستثنائي: «تاريخ الجنون»، حيث كان هناك وعي تراجيدي كثيف يسهر على الوعي النقدي للجنون، عندما حدّدت القرون الوسطى للجنون موقعاً ضمن تراتبية الرذائل!
غير أن الجنون الذي نراه في عرض «أشوفك» يبدو أكثر نبلاً ومقاومة من العقل الرهين والخانع، هو جنون بديل ومؤقت حتى ينجو المرء بنفسه من صفة «الإنسان المهدور» المتنازل عن كرامته.
تصاعد درامي
وبعد فاصل من المعزوفات والتغاريد الشعبية المتراوحة بين «الردح» و«الونة»، نستمع للمونولوج التمهيدي للعرض على لسان أحد المجانين في المعزل -يقوم بدوره هنا الفنان جمال السميطي، حيث يشير إلى أمراض كثيرة عصفت بأهالي المنطقة مات على أثرها الكثيرون وبقي القليلون، أمراض مثل: الجدري، والطاعون، والسل، وغيرها، مضيفاً أن المرض الذي يعانيه مع رفاقه في «المعزل» الأشبه بالسجن الجماعي المفتوح، هو نوع مرضيّ مختلف، عجز عن علاجه الأطباء والمداوون، فهو عبارة عن خطب جلل يصيب العقل، يجعلك تصبح طبيعياً وتمسي مجنوناً، وتمسي طبيعياً وتصبح مجنوناً، ليظل سرّ هذا البلاء مغلقاً في وجه العارفين والمفسرين، ولذلك تم صنع هذا المعزل البعيد والنائي، حتى لا يصاب الأصحاء في المدينة بعدوى الجنون.
وهذا التوصيف العجيب لمرض المجموعة، سيقودنا أثناء التصاعد الدرامي في ثنايا العرض إلى منطقة مغايرة تماماً، عندما نكتشف أن هؤلاء المتهمين بالجنون ليسوا سوى مجموعة متمردة عاشت قصص مقاومة باسلة ضد المحتلّ الإنجليزي، وما يمارسونه من فعل الجنون الظاهري، هو وسيلة مستترة وحيلة جديدة ضد هذا المحتل، الذي اعتبرهم مجرّد عناصر طفيلية وضارّة!
رقصة الطائر المذبوح
يقود حارس البرج -يقوم بدوره الفنان الكبير سعيد سالم- تلك المجموعة المتمردة، للحفاظ على الإرث والعادات والهوية، قبل أن يبدأ المحتل في طمس هذه الهوية وتشويهها بمساعدة مجموعة من الأفراد المستفيدين من نفوذهم ومراكزهم التي وفرها لهم المحتلّ، ومن ضمنهم الطوّاش الذي يقوم بدوره الفنان القدير: سيف عدران، يقاوم المجانين عنف المحتل وشراسته بموسيقاهم وأهازيجهم ورقصاتهم الشبيهة برقصة الطائر المذبوح من الألم، كما في بيت المتنبي الذي يقول فيه:
لا تحسبوا رقصي بينكم طرباً.. فالطير يرقص مذبوحاً من الألمِ!
إنه الألم ذاته الذي يتوج العرض في نهايته عندما يوضع حارس البرج في قفص زجاجي في متحف صنعه المحتل في بلده بمعاونة المتواطئين معه، كي يصبح هذا القفص أمثولة لمصير قادة التمرد من السكان الأصليين، حتى لا يتكرر أشباههم، وحتى يتوغّل التشويه في مفاصل الهوية بذاكرتها الخصبة وفلكلورها الأصيل ومواويلها البحرية، وتغاريدها الصحراوية، وفنونها العميقة الجذور، مثل: السامري، والعيالة، والليوا، والمالد، والطارج وغيرها.
وقد نجح عرض «أشوفك» في إيصال هذا الألم المكثف والمكتنز بكل فداحته ومرارته إلى جمهور القاعة، ليقول بصرخة تحذيرية واستشرافية عارمة: «إنني أراكم» متسلحاً بالنقد الاجتماعي التشريحي والعميق، وذلك قبل أن يتمادى الغرباء والطارئون والجشعون في طمس الهوية المحلية وتغريبها وتسليعها.
تجريف متوحش
استطاع المخرج حسن رجب توظيف أدوات الفرجة المسرحية بجانبيها الطقسي والاحتفالي، ليؤكد أهمية الفنون التراثية في مقاومة التجريف الكبير والمتوحش الذي تمارسه بعض الفنون الهجينة والدخيلة لقيم الانتماء ومرادفاتها المتصلة بالذاكرة الجمعية وروح المكان، كما استطاع المخرج استثمار جسارة النص وحساسيته الشعرية المعززة بالقصائد الشعبية والأغاني القديمة، كي يخلق منافذ سمعية وبصرية آسرة، وذات صدى حميمي لدى المتلقي، موزعاً شيفراته ورموزه ودلالاته المسرحية بشكل متوازن في متن السينوغرافيا وهوامشها، وفي أبعاد وزوايا ومنتصف الخشبة، وكأنه أراد الهيمنة على الأفكار المضادة لطموح المخلصين لأوطانهم، طموح تَشَرّبَهُ النصُّ عمودياً وأفقياً بكل تضميناته وغاياته وإشاراته.
تميّز العرض أيضاً بجانبه «الكوريغرافي» المبهر المعتمد على إيقاعات الجسد، والارتجال الحركي، والتعابير الدالّة للإيماء والاستعراض المفعم بالشجن، رغم الفواصل الكوميدية المخفّفة لوطأة العذاب الجوّاني لجوقة المهمشين والمهجّرين من موطن طفولاتهم وأرض ذاكراتهم.
منظومة أدائية
تميزت الشخصيات الرئيسة بأدائها الواثق، سواء في ملئها فراغات التكوين المسرحي بحضور تفاعلي وتشكيل جمالي، أو في قدرتها على إعطاء الجانب السردي ما يستحقه من اعتناء من خلال تناوب درجات الصوت بين العلوّ والانخفاض تبعاً للحالة والموقف أثناء المونولوغ والديالوغ، وتبعاً للإيقاع المتراوح بين الروي والشعر، ليتم خدمة المنظومة الأدائية بشكل عام في مناخ العرض بمساراته وتحولاته المختلفة، ونذكر من هؤلاء الممثلين: صلاح محمد سعيد، وفيصل علي، ومحمود القطان، ونورة علي، وخليفة ناصر، وصالح محمد، وحسين سعيد، ودلال الشرايبي، وعلي الزرعوني، إضافة إلى الجوقة التي ساهمت في الإثراء المشهدي والإيحائي، والارتقاء بعناصر الفرجة المسرحية.