محمد عبدالسميع (الشارقة)
صدر حديثاً عن معهد الشارقة للتراث كتاب: «الفن في الإمارات: من الاستعادة التراثيّة إلى ما بعد الحداثة»، من تأليف د. محمد يوسف علي، الفنان والأستاذ بكلية الفنون الجميلة والتصميم بجامعة الشارقة. وقدّم للكتاب د. عبدالعزيز المسلّم، رئيس معهد الشارقة للتراث، مؤكداً أهميّة مثل هذا الكتاب في التعريف بالمنجز التشكيلي الإماراتي، ملقياً الضوء على تحقق حلم معهد الشارقة للتراث بوجود مكتبة متخصصة في التراث الثقافي العربي والعالمي، وتوافر كتب مصوّرة بالكامل، من الأطالس والفهارس والموسوعات، لرفد الباحث بالثقافة الشعبية والتراث الثقافي، مؤكداً أنّ هذا يعزز ترسيخ الهوية الوطنية، انطلاقاً من شعار المعهد «نصون التراث.. نحفظ الهوية».
وقسّم الباحث د. محمد يوسف كتابه إلى تمهيد تناول فيه تاريخ الفنون الشعبية في الإمارات، وقسمين، اشتمل القسم الأول منهما على عدة فصول: التشكيل الإماراتي بين التقليد والتوظيف والخصوصيّة، وصراعات الرسامين والخطاطين الفوتوغرافيين والخزّافين، ورؤى الفن الجديد، وما بعد الحداثات، وفنون الريادة. أمّا القسم الثاني فتناول فصول: فنون الريادة، وفنون المرأة، والفنون الفِطرية، وفنون الشباب، والفنانون العرب في حركة التشكيل الإماراتيّة.
ويرى د. محمد يوسف أنّ الحركة التشكيلية في الإمارات تُعدّ من أسرع الحركات الفنية المعاصرة على مستوى الوطن العربي، لأنّها بدأت من حيث انتهى الآخرون، فعلى رغم تماثلها مع أقطار أخرى إلا أنّها تخطّت وتيرة الزمن وواكبت التطوّر الهائل الذي مرّت به، مستفيدةً من نموّ الوعي الفكري والتقدم الاقتصادي والسياسي لدى قادة الفكر في جميع المجالات وأهمها التعليم، مما أثّر سريعاً على كافة نواحي الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، فقطعت في كل ذلك أشواطاً بعيدة.
أسئلة محيّرة
وعلاوةً على أنّ الكتاب يكتنز بالصور والرسومات الداعمة لكلّ عناصر الفن التشكيلي الإماراتي وموضوعاته، في المدارس القديمة والحديثة، فإنّ الباحث أيضاً يطرح أسئلته بخصوص مواضيع غاية في الأهميّة، بروح بحثية مكاشفة وقراءة موضوعيّة، فهو مثلاً في موضوع «التشكيل الإماراتي بين التقليد والتوظيف والخصوصيّة»، يطرح أسئلة محيّرةً فعلاً، ووجيهةً لكي يتم البناء عليها وقراءتها، حين يتساءل، مثلاً: كيف لفنان أن يعيش مرحلة التحول وأن يجسّد كلمة فنان؟ فالطرق كثيرة ومتعددة، سواء كانت كلاسيكيّة أم تأثيرية أم واقعية أم تكعيبية. ولذلك (فالمصوّر يصوّر بعقله لا بيده، كما قال مايكل إنجلو)، وقبل التطوّر والتحول الذي طرأ على مجتمع الإمارات، نلاحظ ونسجّل قراءة لملاحظات غير نقدية استلهمت بيئتين متناظرتين نعيشهما، أثّرتا على أعمالنا السابقة.
ويواصل الباحث تقديم رؤيته حول هاتين البيئتين فنياً، من خلال بعض الأمثلة: مجموعة من الإبل تتجول في الصحراء، أو بارجيل متهالك مكسّر بجوار بارجيل أكثر قدماً وبقايا بيت متهدّم ومتصدّع، وقوارب خشبية أو قارب وقد مال على طرفه قرب ساحل رملي، مع وجود سفينة شراعيّة في وسط البحر وبعض الأمواج. أو خيول أثارت غباراً بحوافرها، أو خيمةً بدوية في وسط الصحراء، ووجود رجال يحتسون القهوة، ومواعين للقهوة والموقد في وسط اللوحة، أو سوق قديم سقفه من الجريد والسعف مع بعض البضائع التي لا تخلو من حبال وأدوات استهلاكيّة. ويرى د. محمد يوسف أنّ هذه النوعية من الأعمال رسّخت الرغبة الملحّة لدى الفنان في الحفاظ على منتجه لسببين، الأول إشباع ذاته في رسم هذه الأشياء التي تحرك موقفه الاجتماعي، والثاني أنها تشكّل تياراً ضد الجديد والقادم، تحت ضغط التمسك بالهوية التراثية والوطنية، وهو توسّل عاطفي للتمسّك بالماضي قدر المستطاع، بعد التحوّل الذي أحدثته حالة التحديث والتبدل العمراني في الإمارات.
جماليات فنية
وتحت عنوان: «جماليات فنيّة» يقول د. محمد يوسف إنّ بعضهم يتمسك بالجماليات الفنية، إما بالألوان أو التكوين، أو باختيار الزوايا التي ينفّذ بها لوحته، ومع هذه الوجاهة، فإنّ الفعل الفني لا يؤدي وظيفته تجاه أيّ منها، لأنّ التشكيل يتم وفق رؤية وموقف، ولابدّ أن ينعكس في كلّ خطوة من خطوات إنتاج العمل الفني، وبالضرورة سيجعلنا (نعرف كيف نراه) في سياقه الصحيح، ونقرأ دلالاته، ونتعرف إلى خطابه ورموزه. فلوحة أخشاب قارب مفككة أو مثلها البارجيل المتهالك المغبر، وقد تغيّرت ألوانه وتداعى وتكسّر، واختلاف في ألوانه، وغيرها.. كلها تعني العودة بالزمن إلى الوراء.
الفنان التسجيلي
وعن «الفنان التسجيلي»، يرى د. محمد يوسف أنه فنان «يسرق الواقع»، وهنا يبرز الخلل في الرؤية الفنية، فالتحوّل الهائل الذي طال التشكيل جعل للفنان تصوراً حراً يتضح من خلال أسلوبه ومنظوره للشكل بل والوصول إلى حدّ التجريد المطلق، وبذلك يكون التجريد معادلاً موضوعياً لشعوره تجاه مادة الانفعال، وهذا التطور لم يحرم الفنان الحقيقي الذي يمتلك أدواته بحرفية عالية من النظر إلى الماضي أو الموروث بشكل صحيح طالما أنه يحركه موقفه الاجتماعي.
ويشرح د. محمد يوسف مشيراً إلى أنّ معظم المصورين يقدمون صوراً فقط لا تحمل رؤية، فالتسجيل التصوّري لا يقدّم فناً، لأنّ المنتج لم يخلق صورة تتضمن موقفاً معيناً، وإنما ينقل موقف الزمن الطبيعي إلى اللوحة لا موقف الزمن الفني (الرؤية الذاتية للرسام)، لأنّه فنان تسجيلي نقل الصورة بفرشاته، وبذلك لم ينجح في تحميلها الدلالات الفنية.
وليس هذا المهم فقط، كما يقول د. محمد يوسف، فمفردات الشكل تصبح مهمة للغاية إذا تضمنت رموزاً روحية يفصح عنها العمل، ولا يعني ذلك حدوث القطيعة مع موروثه وحاضره أي مرجعيته وسياقه، فكلاهما ضروري من وجهة نظر الفنان الشرقي الباحث عن خصوصية فنية وهوية تعبيرية. وإذن فالزمن أحدث فيها تحولاً مادياً، وهذا التحول يتضمن دلالة معنوية بفعل التحول التدريجي في الشكل (اللون والتماسك).
تصادم التيارات
ويخلص د. محمد يوسف إلى وقوع التصادم بين التيارين المعروفين: بين من يسعى بكل جهد للتمسك بالهوية والحنين إلى الماضي والبحث عن الجماليات الشكلية، وبين فناني الحداثة الذين يرون أنه لا حاجة إلى هذه الصور التي تراوح مكانها فقط على اللوحة، ولا يستطيع المشاهد أن يبحر بفكرها أكثر من مجرد لوحة وصورة في خياله تعاطف معها، ولا تواكب المعطيات الحالية، لأننا تخطينا هذه المراحل، وخاصة بعدما وصلنا إلى مرحلة البيناليات وأفكار الحداثة وما بعد الحداثة وصولاً إلى اللوحة الرقمية. وبناء على تنوع التيارات يشتد الصراع، إلا أنّ اللعبة الوحيدة هي رؤية الفنان ومدى تقبله لرسم الموروث والرموز وتقبل الآخرين له. ويرى د. محمد يوسف أنّ عشق رموز الموروث البيئي وظيفة لم تكن من باب الحفاظ على إيقاع التحول، وإن بدت بالشكل المناسب لنا، إلا أنّ الفنان بتسجيله تلك الموضوعات لم يكن غير مقلّد لسياق استهلاكي هدفه وظيفة «تزيينية» تلبي احتياجات ذوق شائع مضاد لروح الفن الحديث ومضمونه ووظيفته.
الرؤية والموقف
وبهذا يقتصر التفسير على «التزينية»، كما يقول د. محمد يوسف، لأنّ الفنان المعاصر، منذ نهاية القرن العشرين وبداية القرن الحادي والعشرين، يمكن أن ينظر للواقع من وجهة نظر ذاتية، ويصوّر التفاصيل بما يشاء من خلال عينه هو وانفعاله الذاتي الداخلي ورؤيته وموقفه لذات الواقع وفعله وتكنيكه الفني الذاتي في الخطوط والألوان، لا كما هو في الواقع، فالفن لا يقدّم لنا المرئيّ بقدر ما يجعلنا نعرف كيف نراه.
ويدرك يوسف أنّ هذا النهج التعبيري الشائع بنمطيّته يظلم منابع الرؤية الفنية المحلية والتي يمكن أن تكون مورداً ثرياً لعين الفنان التشكيلي المحلي، ويجعل الفكر النقدي يرى مبررات صياغة الأشكال بالطريقة النمطية، وبما يسمى وهم الأصالة، لأنّ دلالات الرموز البيئية لم تعبّر عن منابع الرؤية الفنية بشكل مناسب.
معطيات جديدة
ويرى أنّه بالنظر إلى التاريخ الفني الاجتماعي لتلك الرموز، وما تمثله في سياق الماضي بحلاوته ومرارته، والذي صار مرجعاً وسياقاً للحاضر، وجاء بمعطيات جديدة وبنية المجتمع من خلال تحليل النماذج، فإنّ ذلك النمط لا يقدم موقفاً مضاداً، وخاصة أنّه لم يضع مقابلاً لما اهتم بتسجيله في العمل الفني، باعتباره البديل الذي فرض رؤيته لتسجيل بعض الرموز والأشياء التي انقرضت أو هي في طريقها إلى الانقراض.
وتحت عنوان «صراع الأساليب الفنية»، يقول د. محمد يوسف إنّ الصراع يشتدّ بين المدارس الفنية وبين تأويل النقاد والبحث عن الرؤية التشكيلية، ومدى قبول هذا الفن، وخاصة إذا عرفنا أنّ الأساليب بدأت تتغير ولم تعد كما هي في السابق، وذلك لدخول عناصر كثيرة على المشهد التشكيلي، خاصة التطورات الإلكترونية والبرامج الحاسوبية التي جعلت من الفن مجرد فكرة، والباقي تؤسسه هذه البرامج وبنفس المعايير الفكرية، إلا أن الإنتاج ارتقى إلى أشكال أخرى قد تلخّص الوقت، ولكن أحياناً يفتقد الفن الحس الأخير والتفاعل النفسي بين العمل الفني وبين صاحب المنتج، وقد يؤدي إلى سهولة وضعف الفكرة، لأنها جاءت سريعة وبسهولة عمل الأجهزة الحاسوبية، وهي حالات متغيرة وغير ثابتة، إلا في حينها، لتأتي آلة ثانية وتمسح ما قبلها من فكر إلكتروني صناعي، كما هو الصراع لدى مصوري (البورتريه) حين جاءت الكاميرا، وألغت دور رسامي الوجوه بكل سهولة لتقدم هذه الآلة كل ما يريده صاحب الصورة إلا فيما ندر، فيشتد الصراع بين الأساليب والمدارس الفنية في ظلّ هذه الثورة التقنية.
الرؤى والتجديد
وتحت عنوان «صراعات الرسامين والخطاطين والفوتوغرافيين والخزافين»، يتناول الكتاب موضوعات: روح الخط العربي، وأنواع الحروفيات، والفوتوغراف والرسم، والفنون والذائقة البصرية، ومتعة التذوق الفني، وموضوع فناني الإمارات والمتعة الفنية، عارضاً لأسباب انحسار الإنتاج الفني التشكيلي، والاحتراف الفني، والمعاني المستفزة في الفن الإماراتي. وفي حديثه عن رؤى التجديد الفني التشكيلي في الإمارات، يتحدث د. محمد يوسف عن الفنان حسن شريف والمريجة.. شرارة التجديد، وفنانين مثل محمد كاظم وتكسّر اللوحة، ومحمد أحمد إبراهيم وحكاية بيكاسو، وعبدالله السعدي والصمت حين يبوح فناً، كما يتحدث في عنوان «ما بعد الحداثات» عن الفنان خليل عبدالواحد والصورة والتشكيل والفن والعلاقة مع الآخر، وحسن شريف وفن الكولاج، وعلي العبدان بين النقد الفني والتشكيل وتجربة الإنسان والموسيقى وأرواح الماضي والتشكيل بالشعر.
فنون الريادة
كما يتحدث د. محمد يوسف في موضوع «فنون الريادة»، عن الفنانين: عبدالقادر الريس شيخ الفنانين المعاصرين ومواضيع البراجيل والأحياء القديمة، والوطن والتأثيرات الفنية ورموز التراث وتوازنه البصري والعقلي. كما يتحدث عن عبدالرحيم سالم والنحت.. الأسود والأبيض، وكذلك الموروث الثقافي الشعبي، وعبيد عبيد سرور..التأسيس وفن تدوير المهملات، وعبدالرحمن زينل وفنون الديكور والخامات والذاكرة، ومحمد القصاب والرثائيات، كما يروي الباحث جوانب من تجربته الشخصيّة وأعماله الفنية، والمفاهيم التشكيلية الجديدة والنحت الحركي والمحمولات.
فنون المرأة
كما يتحدث في الكتاب عن «فنون المرأة»، وحركة الفنانات التشكيليات والمعاصَرة، مثل فاطمة عبدالله لوتاه ورحلة الفن بين دبي وبغداد والخامات والحروف والتجريد والبورتريه، ود. نجاة حسن مكي بين الرسم والنحت وتاريخ العملات ودمى المسرح وكذلك مفردة الحلم وفن تداعيات الزمن. وأيضاً منى الخاجة والتأمل والألوان، وخلود الجابري والهدوء المشبع باللون، وكريمة الشوملي وأعمالها التركيبية وتشكيل البراقع، وسلوى المري واهتمامها بالإنسان والشعر والموسيقى، ونساء الشحي والبحث البصري واشتغالها على كرب النخيل، وعزة القبيسي وتصميم المجوهرات والحلي والفضيات، وماجدة سليم واهتمامها بالخط.
الفنون الفِطرية.. الدور والحضور
في موضوع «الفنون الفِطرية»، يبحث د. محمد يوسف في مجال فِطرة البحر والصحراء تشكيلياً، عارضاً تجربته الشخصية في هذا الصدد، وتجارب كلّ من: أحمد الأنصاري كذاكرة واسعة وأحد مؤسسي جمعية الإمارات للفنون التشكيلية، ومحمد عبدالله «بو لحية» الفنان المظلوم إعلامياً بسبب الكتابة عادةً عن الأعمال المفاهيمية واعتبارها هي الحداثة في الفنون، والفنان إبراهيم العوضي بين الفِطري التلقائي وقواعد الفن الواضحة والاشتغال على الطبيعة.
كما يعرض لفنانين تشكيليين شباب، ذاكراً: مطر بن لاحج وحركة السكون، ومحمد الأستاد والإرث الفني والبورتريه وفن دانات الشواطئ، وخالد البنا وفن الغرافيك ودلالات التجريد. ويعرض أيضاً لدور وحضور الفنانين العرب في حركة التشكيل الإماراتية، ذاكراً: إحسان الخطيب، وأحمد حيلوز، وبشير السنوار، وثائر هلال، وجمال عبدالبديع، وطلال معلا، وعبداللطيف الصمودي، وعبدالكريم سكر، ود. عبدالكريم السيد، وعطاف العظمة، ومحمد فهمي، وياسر الدويك، ويوسف الدويك، ومحمود حسن.