نوف الموسى (دبي)

سأتعمد هُنا وصف الغربة في أعمال الفنان والشاعر الإماراتي محمد المزروعي، بأن لها أُلفة خاصة، رغم التعارض الذي قد تبديه كل تلك البورتريهات، الأوجه بصرامتها وبؤسها الصريح، بينما يتم تشويه الجسد بتصوراته الشكلية والوظيفية العامة، إلى خطوط ومتاهات في عمق اللوحة، حالة من النزعة القصوى لرغبة دفينة لإعادة التشكيل، يقودها اللون الأسود في مسارات بيضاء، لا تتطلب فهماً مباشراً، لسؤال محمد المزروعي عن الأوجه وارتباطها بالمكان أو الجغرافيا إذا صح التعبير، ولكن تستدعي استفهامنا نحن المتلقين حول المساحة الخاصة في الذاكرة الوجودية لدى الفنان محمد المزروعي، والتي بطبيعتها تُشعره بلحظة المكان، باعتباره حالة يألفها ويدرك مكامنها ومستويات الخلق فيها، فأن تقف على الحدود بين الفضاءات المختلفة، فأنت ليس بالضرورة تختبر ألماً، بقدر ما أنك أحياناً تدرك مسألة التباين، وتمتلك حساً عالياً على تفكيك التصورات المجتمعية والمعرفية والثقافية، هي أقرب ما تكون هبة، قد يتعارض في طبيعة ممارستها النقاد والفنانون، حيث سيعبر بعض منهم في أن الألم المتجلي من شعور الغُربة، هو دافع لإحداث التحولات المستمرة في أعمال الفنان الإماراتي محمد المزروعي ( من مواليد 1962 في مدينة «طنطا» المصرية، أسس لمسيرة فنية وشعرية منذ الثمانينات بالإمارات). 

التفكيك البصري
لافت استخدام الفنان محمد المزروعي، لحالات التفكيك البصري للأجساد البشرية، في المنحوتات التي قدمها في معرضه الفني الفردي «NO» في «عائشة العبار آرت غاليري» بمدينة دبي، هو يضعنا أمام مواجهة قاسية مع التصور الفكري، والتشكيل الجسدي، تخيل مثلاً أن كل جزء من جسم الإنسان هي بمثابة معتقد، أو فكرة لها جذورها وتراكماتها عبر التاريخ الإنساني الممتد لآلاف السنوات، وإذا بك تُلاحظ تغيراً يطرأ على مكان الرأس، إضافة إلى الوضعيات العامة للمنحوتات، والتي تحمل  إشارات ودلالات تتصل بالمكونات الثلاثة الرئيسية في تكوين الإنسان وهي الروح ذات العلاقة بالحدس، والجسد ذات الارتباط بالغريزة، والعقل ذات الاتصال بالفكر والمعتقدات. منذ الوهلة الأولى لرؤية تلك المنحوتات، ينتاب المشاهد شعور انضمامه إلى اللعبة البصرية، حيث استخرج المزروعي المكونات الشعورية من اللوحة، وتجلت من خلال رؤية ثلاثية الأبعاد، والمفارقة أنها تجتمع سوياً في مساحة مشتركة، فالمشاهد بعد أن يتغنى بجّل المتناقض الحسيّ في اللوحات الفنية، فهو بذلك يأتي محملاً بمستوى من الانفلات لكل ما هو مألوف عن الوجه والجسد، هو بشكل ما يرتوي من تجربة التشوية نفسها التي تمر من خلالها الأجساد في أعمال المزروعي، ويمكننا أن نتصور أن هذه إحدى المهمات الرئيسية التي تدعمها أعمال المزروعي، أن تصل بنا إلى تجربة حالة التشويه، التي هي في الأساس حاضرة في التجربة الإنسانية، وما يفعله المزروعي هو أن يقوم بتوضيحها، بجعلها أمام مرأى الأعين، بل وتقدم خياراً لكل شخص، أن يرى التشويه الخاص فيه، ويعيد فهمه وإدراكه، لأن تشويه الشيء هو بحد ذاته وسيله لاكتشاف مدى جمال الأشياء وحضورها الاستثنائي، ربما يرى البعض بأنه وصفاً رومانسياً، بأن نجعل للتشويه مقابلاً للجمال، ولكنها فعلياً طريقة الحياة في إحداث الانكشاف والتعرية بين الأشياء. 

«NO»
أعلن المعرض الفني عن نفسه بكلمة «NO»، والعائدة إلى ملاحظة أبداها الفنان محمد المزروعي، لبقايا نسيج، وجده على طول شارع في القاهرة، متشكلة على كلمة «NO» الإنجليزية، والتي رأى أنها تعبر عن تجربته الشعورية اللحظية وتوجهاتها، والمسألة ليست من الناحية الجغرافية بالنسبة له، ولكنها أقرب إلى حالة خاصة تحمل بين جنباتها حنيناً إلى الماضي، ما يعود بنا إلى بداية عمل الفنان محمد المزروعي على موضوع اللغة، وكيف أنها ترسخ المفاهيم، وتحدث حالة من التلاشي للصورة. في الحقيقة، ما أوضحة المزروعي عن اللغة وما صنعته في تشكيل المفاهيم، إنما يشرح القدرة الإبداعية الآن في تفكيك اللغة من خلال الجسد بصرياً، وهي ممارسة تكمن قوتها فيما يمكن استحضاره ما بعد تجاوز اللغة، وتجاوز الصورة، وهي الحالة الصافية للوجود، إنها ليست عودة للغريزة والبدائية، كما يمكن أن يصفه البعض، ولكنها إشارة أولى على التوازن بين الغريزة في كونها القوة الدافعة للحياة، وبين العقل والروح جميعها في داخل فضاء الوعي الجمعي.