إيهاب الملاح (القاهرة)

توفيق الحكيم (1898-1987) أشهر من أن يُعرّف، فهو الرائد المسرحي والروائي والقصصي، وكاتب المقالات والتأملات والفنان الجامع الشامل الذي ألهم أجيالاً وأجيالاً من بعده كي يكونوا كتاباً وأدباء ومبدعين.
وللحكيم ذكريات نادرة وممتعة عن طفولته في شهر رمضان الفضيل، سجل الكثير منها في عددٍ من كتبه مثل سيرته الذاتية الممتعة «سجن العمر»، وفي كتابه «فن الأدب» الصادر عام 1952، سجل فيه مما اختزنه في ذاكرته النصية من طفولته المبكرة في مرحلة التنشئة الاجتماعية، وذكرياته عنها في رمضان، وله في ذلك فصل بديع من الكتاب المذكور بعنوان «من فن الطفولة»، وفصل آخر بعنوان «حرمان الأبناء».
فيما سجل صاحب «أهل الكهف» من ذكرياته وأحاديثه عن الشهر الكريم، ظاهرة «الأراجوز الشعبي»، وهو من الظواهر والفنون الشعبية التي كانت معروفة في مصر في الموالد والمواسم والأعياد، وما زالت بقاياه موجودة إلى الآن تحاول مقاومة الاندثار.
لكن الفانوس الزجاجي المزركش بالألوان الزاهية، يخطف الأبصار والقلوب بجمال ألوانه وتصميماته، إحدى أيقونات رمضان وعلاماته الأصيلة، هو محور الفصل المشار إليه قبل قليل بعنوان «حرمان الأبناء»، يكتب الحكيم:
«كم سعدنا في طفولتنا الجميلة بشهر رمضان، وكم شقينا أيضاً! من ذا الذي لا يذكر خفقة قلبه الصغير، في صباه، وهو أمام حانوت «السمكري» يقلب أنظاره الشائعة، وأبصاره الزائغة، في مختلف «الفوانيس» بزجاجها ذي الألوان؟ ما أبهج ذلك الفانوس الأصفر الأخضر الأحمر المعلق في القمة، ولكن ثمنه ولا شك باهظ! تُرى هل يرضى الأهل ببذل هذه التضحية من أجله؟ إنه على كل حال لن يكلفهم شططاً ولكنه سيفعم قلبه بسرور لن يقدر الكبار مداه أبداً! ما أقسى الكبار أحيانا! إنهم قد يضنون ببضعة جنيهات لن تغنيهم، هي الفرق بين لعبة ولعبة! ولكنها في الواقع هي الفرق بين سعادة وسعادة! ما أشد نسيان الكبار! لقد كانوا كلهم صغارا في يوم من الأيام! لماذا لا يذكرون ذلك العالم السحري العجيب الذي تتفتح للأطفال أبوابه الذهبية فجأة كلما أرادوا الحصول على شيء من تلك الأشياء التي يحلمون بها.
لو تذكر الكبار ذلك العالم الذي أغلقت دونهم أبوابه بخروجهم من طور الطفولة لما ضنوا على أولادهم بشيء!.
ما أعجب تلك المعجزة التي يسمونها الطفولة! فيها تستطيع أن تدخل الفردوس الذي لن تدخله بعد ذلك أبداً بقروش معدودات! سلْ كل صاحب ملايين في أمة من الأمم: هل في مقدورك أن تشتري اليوم بملايينك لحظة سعادة، كتلك التي كنت تشتريها في صباك؟
أقول ذلك لأني لم أظفر في طفولتي بكل ما كنت أتوق إليه من لعب، وأصبو إليه من أشياء.. فكنت أخلقها لنفسي بنفسي بخيال مشبوب، وكان من أقراني وجيراني من يملك لعباً نفيسة عجيبة تملأ حجرته، وتملؤني دهشة، أقف بينها مشدوها، وأحملق فيها معجباً، وألمسها مكبراً! وصاحبها الصغير يعبث فيها بيده الصغيرة محطماً ومحقراً! كنت ولا ريب أدرك قيمتها أكثر منه، وأرى فيها أشياء باهرة، لا تراها عيناه، لأني لا أملكها، ولا أستطيع أن أحصل عليها!
إذا جاء «رمضان»، وتطلع الطفل إلى الفانوس المزركش، فهل تترك خياله معلقاً، وأحلامه تهتز معه، وتبتاع له الفانوس لتضيء زجاجه وشمعته، وتطفئ خيال الطفل ولوعته؟!.