إيهاب الملاح (القاهرة)

... ومن بين اللُقى والدفائن القديمة والثمينة، كان العثور على هذا النص البديع لواحدٍ من نجوم الشعر والأدب والصحافة في مصر والعالم العربي في القرن العشرين، صاحب قصيدة «لا تكذبي» الشهيرة التي تغنّى بها كل من موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب، وصاحبة الضوء المسموع نجاة.
عن الشاعر الراحل كامل الشناوي أتحدث، وقد ملأ الدنيا وشغل الناس لعقود طويلة بخفة ظله المعهودة وشعره الرقيق الناعم، فضلًا عن حضوره المتألق كصحفي وكاتب مقال لا يشق له غبار! وقد كان من الحريصين في كتابة «يومياته» خاصة في شهر رمضان على تناول الجانب الذاتي والسيري واستحضار الذكريات المتعلقة بمظاهر وحضور رمضان والاحتفال به.
في نصه المعنون بـ«أين ذهبت ليالي رمضان؟»، المنشور في جريدة (الجمهورية) بتاريخ 10 مارس عام 1960، يقارن الشناوي بين رمضان في زمنين وعهدين ومرحلتين من مراحل التطور الاجتماعي والسكاني في مصر آنذاك.. يفصل بين العهدين أربعون عاماً بين اللحظة التي دوّن فيها الشناوي نصه، وبين التاريخ الذي يتحدث عنه في الماضي البعيد..!

يتذكر الشناوي:
تناولنا طعام الإفطار في بيت صديق ما زال يسكن نفس البيت الذي كان يسكنه ونحن جميعاً أطفال صغار.. كم لعبنا معه في هذا البيت.. كم انصبت فوق رؤوسنا اللعنات من أهله، عندما كنا نتشاجر، وترتفع أصواتنا بالصيحات، والصرخات، ونقذف الكرة فتحطم زجاج النوافذ.
وقد اتسعت المائدة لنا جميعاً، وهي مائدة عريضة، مستطيلة، عتيقة، وقد فرشت بالمفارش المحلاة بالقصب، ورصت فوقها أكواب قمر الدين، والمشمشية، والسوبيا، وإلى جانبها مختلف أنواع السلطة، وكانت الأطباق الرئيسة مكونة من الخراف، والديوك الرومية، والمحشي، والدجاج، والحمام، والسمك. 
أما الحلوى فكانت مقصورة على الكنافة، والقطايف، والجلاش، والمهلبية، والبقلاوة، وأم علي، وعلى الرفوف المثبتة في الجدران وقفت أكوام الفواكه أشبه بمآذن صغيرة.
ويمعن الشناوي في استعادة ذكرياته عن طفولته وصباه، ويسوقه الحديث إلى ليالي رمضان، يتساءل أحدهم:
- أين ذهبت ليالي رمضان؟ أين البيوت الساهرة المفتوحة أبوابها للآكلين والنائمين؟ أين السوامر والسرادقات التي يتردد عليها الناس فيسمعوا القرآن، وقصة المولد، والأغاني، والتواشيح؟ لم يعد في الحي كله، إلا هذا البيت، فسبحان مغير الأحوال!
ويجيب الشناوي عن تساؤل رفيقه جاداً، أو مازحاً: إن ليالي رمضان كما هي، وكل ما حدث «أن المدينة كانت تسهر في شهر رمضان ليس إلا، فصارت تسهر في جميع الشهور.. كان الناس طيلة السنة ينامون بعد صلاة العشاء، ولا يسهرون إلا في شهر رمضان، فأصبحوا يسهرون طيلة شهور السنة، بما في ذلك شهر رمضان.
ويشبه الشناوي «ليالي» رمضان بمثل هذا البيت الذي اجتمع فيه برفاقه وأصدقائه القدامى.. هكذا كان منذ أربعين عاماً، وقد طرأ عليه استخدام الكهرباء والتبريد، والتسخين، وحفظ المأكولات، وتكييف الهواء.. ولكن هذه الطوارئ لم تغير البيت العريق، ولكن زادته عراقة، وأضافت إليه ذكريات.. يختتم الشناوي:
«نعم.. لم يتغير شيء.. وكبر كل شيء.. البيت صار أكبر، فقد ارتفع فوقه طابق جديد.. ونحن الأصدقاء الأطفال صرنا كبارًا.. حتى طفولتنا صارت كبيرة، فقد زادت أربعين عامًا!»...