عبدالوهاب العريض (الاتحاد)
يعيش الكُتاب والمبدعون بعض طقوسهم الخاصة في شهر رمضان، ولكنهم يستعيدون تلك الذاكرة دائماً والأيام عندما كان الواحد منهم في مسقط رأسه، وفي الأغلب تكون القرية والحارة منطقة الذاكرة الجميلة التي ينهل منها الأديب والكاتب حالة إلهامه الإبداعية.
في هذا المقام يستحضر عبدالله السفر، الشاعر والناقد السعودي، الذاكرة الرمضانية، فيقول: لا يحضر شهر رمضان الكريم إلا وتحضر معه مشاعر ذاكرة مشبعة بالحنين إلى نقطة بعيدة غائرة في زمن الستينيات الميلادية من القرن الماضي، حيث قريتي الهاجعة في أحضان واحة الأحساء «الجشة» شرق المملكة العربية السعودية، والتي لم يصلها بعد حينذاك أيُّ أثر من آثار التحوّلات التي غزَت الريف السعودي مع العقد التالي في السبعينيات.. قرية مكنونة في بيوت متضامّة متساندة -جزء كبير منها من الطين- تنعم بالهدأة، ولا يقترب منها الصخب الكهربائي!. تعيش فصول السنة بمواقيتها المنزلية: السطح والحوش والرواق والحجرات، حسب درجة الحرارة إنْ صيفاً أو شتاءً، وتلك الهدأة يختلف حالها في رمضان، فالأطفال الخائفون من الظلام لا يفارقون المنزل إن جاء الليل، وإن دعَت الحاجة الملحّة فلا بدّ من السراج.
ويضيف السفر: كان الأطفال يطوون خوفهم في رمضان طيلة ثلاثين ليلة، فـ«الشياطين» مصفَّدون لا يؤذون أحداً، قيدٌ لهم، فيضُ حركةٍ للأطفال.. حيث كنا نجوبُ «الفريج» بحريّة في ظلامٍ دامس أو نورِ القمر البازع توّاً.. طمأنينة تملأ الحواس فنتدفّق إلى اللعب ولا نتهرّب من «المطراش» إلى بيوت الجيران والأقرباء وأصدقاء العائلة بـ«نقصة رمضانية» لم يسعفنا أذان المغرب بالوفاء بها في موعدها.. الصحون التي لا تستريح في جولتها اليومية بين البيوت.. صحون تفوح بأطايب الطعام، أطباق رمضانية عُمدتُها «الهريسة» وبجوارها العديد من ألوان الطبخ الأخرى التي لا تظهر إلا في الشهر الكريم، وهي هويّة رمضان الغذائية.. ربما أبقاها في ذاكرتي (ولا تزال تعبق): «اللقيمات»، الكرات الذهبية تفوح بالدبس، أطيب حلاوة يذوقها الطفل، أطيب الحلويات التي ذاقها المرء، وتظلّ هي.. هي الأزكى من بينها «كرة ذهبية» مغموسة بالدبس بصمتي المنقوشة في الذاكرة وعلامتي المحفورة في الذائقة.. تندلع في أنفي، فيستيقظ «زمن الطيبين» والوجوهُ الغائبة.. تستيقظ نعمة خاصة.. شخصية جداً يضفي عليها الحنين مزيداً من اللهب الأزرق!
وحول الجمعة الرمضانية في السابق يقول السفر: نار خفيفة نقرأ فيها حاجتنا إلى «رمضان اللمة» رمضان العائلة والجيرة وحضن «الفريج».. وهناءة ما قبل السحور بالطبلة النديّة: «قعدوا تسحّروا يا صيّام. يعود عليكم كل عام».