الفاهم محمد

سنة 2019 جرت مناظرة بين اثنين من أكبر المنظِّرين الإيديولوجيين في عصرنا. المنافح عن الليبرالية والحضارة الرأسمالية، المفكر الفرنسي برنار هينري ليفي BHL، والفيلسوف الروسي المشهور ألكسندر دوغين، صاحب النظرية السياسية الرابعة والمدافع عن صعود الحضارة الأوراسية، وعن عالم جديد متعدد الأقطاب. وعلى رغم مرور ثلاث سنوات على هذا اللقاء، إلا أن الأفكار التي طرحت فيه ما زالت تلقي أضواءً قوية، بشكل مدهش، على بعض الأحداث التي تجري اليوم.
وقد جرت المناظرة في أمستردام بمعهد نيكسوس Nexus Institute أمام الآلاف من المتابعين. وكانت مناسبة للاطلاع على فكر رجلين، يقعان على طرفي نقيض من بعضهما بعضاً. ولكن على رغم اختلافهما الشديد، إلا أنهما يلتقيان في نقطة واحدة. وهي أن كلاً منهما ينظر إليه باعتباره مفكراً مفرط الحماسة لمواقفه، هذا إن لم نقل إن كلاً منهما تحوم حوله شبهات الارتباط ببعض الأجندات السياسية المؤدلجة. فألكسندر دوغين الفيلسوف الروسي المعاصر، 1962 -الذي سبق له أن عمل كمستشار للكريملين ومجلس الدوما، يطلق عليه أحياناً لقب: «عقل بوتين» وأحياناً أخرى: «راسبوتين الكريملين»- هو مفكر ملهم للممارسة وربما للقرار السياسي في روسيا. 
ويحاول دوغين اليوم أن يرسم خريطة جديدة، للدور الذي ينبغي لروسيا أن تلعبه بعد سقوط الاتحاد السوفييتي. وأن ينظِّر لعالم جديد، يلعب فيه الشرق وخصوصاً أوراسيا دوراً كبيراً، وخصوصاً بعد الأزمة الحضارية التي قادنا إليها الغرب.

وجه مثير للجدل
أما برنار هنري ليفي، 1948، فيعتبر وجهاً مثيراً للجدل في الثقافة الفرنسية. فهو مفكر ليبرالي تكنوقراطي، ويوصف أحياناً بكونه «أيديولوجي النظام العالمي الليبرالي». وكان يحسب على الاتجاه المعروف بـ«الفلاسفة الجدد»، ولكنه عرف أيضاً بانتقاداته الشديدة للأنظمة الشمولية خاصة في كتابه: «البربرية ذات الوجه الإنساني» حيث انتقد العقلانية الغربية، معتبراً إياها الحضن الذي نشأت وترعرعت فيه التوتاليتارية، التي كانت تقدم ذاتها دائماً باعتبارها إنسانية وعقلانية! وهكذا في نظر هنري ليفي فالفلسفة الألمانية مسؤولة عن ظهور الفاشية والنازية! كما ارتبط اسمه أيضاً ببعض القضايا الجيوسياسية، وظهر في العديد من مناطق التوتر في العالم مثل ليبيا وسوريا ويوغوسلافيا وغيرها.

الحداثة المتهورة
افتتح ألكسندر دوغين النقاش بتوجيه انتقاداته للهيمنة الغربية، ولليبرالية العالمية التي تعيش في نظره لحظاتها التاريخية الأخيرة. ذلك أن الأزمات التي تعرفها الحداثة والعولمة اليوم، هي دليل على أن هناك شيئاً آخر يتهيأ للظهور. ولذلك فهو يستغرب كيف يستمر برنار هنري ليفي، بالدفاع عن هذا النظام، وعن هذه «الحداثة المتدهورة» أو المتهوِّرة التي تقودنا نحو العدمية.
ويرفض دوغين التأويل الإيديولوجي الغربي لفكرة الديمقراطية الليبرالية وحقوق الإنسان، التي تدعي أنها عالمية وتفرض نفسها على الجميع. إن العولمة كما تتبدى في حاضرنا، ما هي إلا هيمنة تمارسها الأقلية الليبرالية مدعية أن قيمها كونية. فمن الخطير أن يتم تعميم الرؤية الغربية للعالم، باعتبارها الوحيدة التي يجب اتباعها. 
وفي نظر ألكسندر دوغين، فهذا الأمر لن يكون سوى نوع من العنصرية الجديدة. وفي المقابل، فإن تحقق الذات في السياق الروسي لا يكون عبر الفردانية، بل عبر الانتماء إلى المجتمع، ففكرة الهوية الجماعية، يضيف دوغين، هي ما يميز المجتمعات الشرقية، سواء في روسيا أو الصين أو الهند، أو في الحضارة الإسلامية. 
وهكذا فما نحن في حاجة إليه هو شيء يتجاوز الحداثة وأزماتها، التي تتجسد بوضوح في إلغاء هوية الآخر، باسم ما هو كوني. صحيح أن ثمة بالتأكيد روابط عامة ومشتركاً إنسانياً، ولكن كل هذا لا ينبغي أن يلغي خصوصية الآخر.

من يدافع عن العدمية؟
وفي المقابل دافع برنار هنري ليفي عن نفسه، مؤكداً أنه لا ينتصر للعدمية. بل بالعكس من ذلك تماماً فهو يحاربها، ويدافع بالأحرى عن مجموعة من القيم مثل الديمقراطية والحرية والمساواة والعلمانية والحداثة السياسية. وهذه القيم في نظره تظل حاضرة حتى داخل الثقافة الروسية أيضاً. ولا شك أن كتاباً ومثقفين كباراً مثل تورغنييف أو ساخاروف أو سولجنستين، جميعهم ناضلوا ضد الشمولية من أجل الحقوق الفردية. وهكذا فالعدمية هي ما تحقق تاريخياً من خلال الإبادات الجماعية، التي حصلت في زمن ستالين، أو خلال الحرب العالمية الثانية مع هتلر. 
إن العولمة، في نظر برنار هنري ليفي، لا تعني التوحيد ومحو الاختلافات، بل بالعكس من ذلك تماماً، هي تدل على الانفتاح على الآخر، وربط الجسور بين الشعوب والثقافات، وتشارك كل القيم التي أثبتت نجاحها، مثل قيم المساواة والحرية التي تبلورت في فلسفة الأنوار. إن أطروحة ألكسندر دوغين، في نظر برنار هنري ليفي، شبيهة بأطروحة صمويل هنتينغتون حول «صراع الحضارات». فما نحن في حاجة إليه هو مد الجسور بين الثقافات، وإنشاء الحوار بينها، بدل أن تظل كتلاً مغلقة حول ذاتها.

شخصنة الحوار
وقد جرى النقاش في أغلب لحظاته بشكل هادئ، على رغم أن برنار هنري ليفي بدا في بعض الأحيان أكثر تحاملاً، وخاصة عندما أخذ يُشخصن الحوار، موجهاً كلامه بشكل مباشر إلى دوغين، متهماً إياه والتيار الأوروآسيوي بتجسيد العدمية، من خلال عدم مناصرة القيم الكونية. 
وإذا كان النقاش قد اتخذ طابعاً فكرياً في بدايته، إلا أنه سرعان ما انحرف لمناقشة قضايا سياسية. وكأن برنار هنري ليفي المتمرس في مواجهة وسائل الإعلام، التي قيل إنها هي من صنعته، كان يصرُّ على جرّ خصمه إلى القضايا السياسية السجالية.

النظرية السياسية الرابعة
ومن المؤكد أن الحداثة تعرف أزمات كبيرة، وهذا باعتراف المفكرين الغربيين أنفسهم مثل فوكو ودريدا وليوتار، وهو الموقف ذاته الذي يستند إليه ألكسندر دوغين من أجل المطالبة بضرورة التفكير في وضع بدائل للحداثة، ولذلك يبدو كلامه عن «حداثة جديدة» أمراً معقولاً جداً. إن هذا هو ما يسميه بالنظرية السياسية الرابعة. لقد عرف القرن العشرون ثلاث نظريات سياسية، هي على التوالي الشيوعية والفاشية ثم الليبرالية، وهي كلها نظريات نتجت عنها كوارث ثقافية وانتهت إلى الفشل! لقد انهارت الشيوعية مع سقوط المعسكر الاشتراكي، وانهزمت الأنظمة الفاشية والنازية خلال الحرب العالمية الثانية. 
أما الليبرالية التي توهمت أنها انتصرت، فقد تحولت هي أيضاً بدورها إلى استبداد عالمي ونزعة مركزية للحضارة الغربية، تحاول أن تنصب نفسها النموذج الأمثل، الذي ينبغي أن تقتدي به كل الدول. فما يتغافل عنه برنار هنري ليفي هو أن الليبرالية قامت بامتساخ شديد للهويات الوطنية وطمس لمعالمها الثقافية، وهذا بالضبط هو ما تسعى إلى تجاوزه النظرية السياسية الرابعة.
وقد صرح دوغين بعد نهاية المناظرة بأنها كانت مخيبة للآمال، وبأن تبادل الأفكار لم يتم بالشكل المطلوب. والحق أن ألكسندر دوغين بدا خلال النقاش باهتاً، في مقابل هنري ليفي المتعود على وسائل الإعلام. وكيفما كان الحال فقد عبر هذا اللقاء الحواري، ليس فقط عن اختلاف بسيط في مقاربة الواقع وقراءة الأحداث التاريخية، بل جسد بالفعل التعبير الواضح عن وجود رؤيتين متناقضتين تماماً لفهم العالم: عالم أحادي القطب، أم عالم متعدد الأقطاب!؟