محمود إسماعيل بدر (الاتحاد)
منذ انطلاقها في أبوظبي عام 2007 والجائزة العالمية للرواية العربية «البوكر» تسير بخطى واثقة نحو مكافأة التميّز في الأدب العربي المعاصر ورفع مستوى قراءة هذا الأدب عالمياً، من خلال ترجمة الروايات التي وصلت إلى قائمتها القصيرة، فضلاً عن اهتمامها بجودة وتكريس الإبداع الروائي الرّصين برؤية خاصة منفردة لم تكن يوماً على مقاس أيّ توجّه، علاوة على ما تمتاز به من شفافية جعلتها محطّ أنظار الأدباء العرب، وقد اعتادت «الاتحاد» أن تقدّم مع كل نسخة جديدة من الجائزة قراءات نقدية لقائمتها القصيرة، وهنا قراءة في إحدى روايات القائمة القصيرة للنسخة الـ15 لعام 2022 وتتضمن 6 روايات.
تتحوّل المرأة في رواية الكاتبة والباحثة الإماراتية ريم الكمالي «يوميات روز»، الصادرة حديثاً عن (دار الآداب - بيروت2021)، إلى أيقونة وشاغلاً فكرياً، في إطار صياغة تندرج تحت ما يعرف بـ«أدب النوفيلا»، وهو بحسب دائرة المعارف البريطانية: بأنه سرد قصير، محكم البناء، واقعي أو تهكّمي النّبرة في الغالب، يتكئ على أحداث محلية خالصة، ويعود تاريخ نشأته إلى العصور الوسطى.
بحسب الكاتبة، فإن روايتها ذات الحس الأنثوي تنتمي إلى أدب الخيال، وسعت عبرها إلى تسليط الضوء على تلك الأنثى الإماراتية التي عاشت في فترة الستينيات بين خان الشارقة وشندغة دبي، وتحديداً عام 1953 كمرحلة مفصلية هيمنت فيها فكرة صعود العروبة وزمن الاستقلال من الاحتلال، حيث التحقت بطلة الرواية ابنة عائلة من كبار التّجار والقارئة المحترفة في أول فصل دراسي للمرأة في الإمارات قبل قيام الاتحاد، لتسرد عبرها حكاية المرأة المهمّشة آنذاك على الصعيد الوجودي والعاطفي والفكري، بحيث تبدو الرواية أكثر من مأساة «روز» إلى قضية المرأة ومعاناتها عامة، بعد أن أصبحت تشكل في العالم محوراً استراتيجياً وحقوقياً متعدد الاهتمامات والأطروحات، وكأنها تخبرنا بأن التّوجه الإقصائي نحو المرأة ما زال موجوداً في فضاءات عولمة الثقافة.
بطلة الكمالي صاحبة رواية «تمثال دلما»، رغم كل ما يحيط بها من مآسٍ وظلم اجتماعي، إلا أنها استثنائية ومن طراز خاص للفتيات المكافحات المقنّعات بالصمت القسري، فهي في البدء مشروع كاتبة وأديبة، تصبّ جام غضبها على راهنها، بعد أن تُحرم من بعثة دراسية في دمشق لدراسة الأدب العربي، فتعود إلى بيت والدها في الشندغة بدبي، لتكتب وتبوح بمشاعرها في يومياتها السّرية، ففعل الكتابة هنا هو المفتاح الوحيد لهذا السجن العائلي والاجتماعي والوجودي الذي تعيشه، ثم تلقي مضطرة بدفاترها في الخور، إذ كان من المعيب على المرأة آنذاك كتابة مشاعرها وإبداعها، ونعتقد أن هذا المدخل المتقن في رسم شخصية «روز»، ككائن يتوق إلى الكتابة والإبداع كهوية إنسانية والتحليق في فضاءات التعبير، وكسر القيود، وجعلها معادلاً موضوعياً للهروب إلى خيال واعٍ يتقمّص فكرة الانتصار على الواقع، خيال يمنح البطلة التي تعيش ثنائية صراع الواقع والخيال، لتدخل في مساحات شائكة تؤلف فيها حكايات وقصص عن طبيعة البشر، من تحت عباءة (نوستالجيا) بديعة، هو ما منح هذه الرواية الأنثوية حيويتها بلغتها الشاعرية ومفرداتها المزدوجة المعنى ومستوى تعدد أصواتها الحوارية والسردية، التي كانت مصدر شغف للقارئ لكي يستكشف عوالمها الغارقة في مناخات من التهميش الفكري.
تقول روز (أما اليوم وبوصفي فرعاً أنثوياً منتهياً في بيت والدي أنال كنية «ابنة التجار»، وغداً بعد زواج وإنجاب سأكنّى بـ«أم فلان»، وتمضي بي الألقاب من المعلوم إلى المجهول، علي أن لا أنسى بأنني امرأة، والمرأة تنتمي إلى كتب ميتة، ولا أمل إلا للبقاء على الخرس كحرز لي).
أهم ما يميز كتابة ريم الكمالي، أنها تغوص في سياقات خارج النمطية، بتوظيفها البارع للعبة المفارقات والتناقضات لكشف الكثير من المظاهر الاجتماعية والتاريخية والثقافية، متخذة من ذاكرة وواقع بطلة روايتها مرجعاً سردياً لبناء تخييلي وحبكة رصينة محكمة تحمل في طياتها تحولات جوهرية للشخصيات التي رسمتها بشفافية وجرأة عالية، عبر أحداث ممتدة تبحث فيها البطلة عن الأمن الاجتماعي، ومن خلال هذه الاستراتيجية انفردت الكمالي في تشكيل نص لا يخلو من متعة وفن وفائدة، على نهاية مفتوحة نحو آمال قادمة.