إبراهيم الملا
«إن العالم الآن أحوج ما يكون إلى حركة مسرحية جديدة، بل قل ثورة مسرحية جديدة، في زمن بدأت تنحسر فيه موجة الدعوة إلى التعارف والتآخي بين الشعوب، لتطغى عليها موجه عاتية تهدد مصير الإنسانية بالدمار، وأخرى تنادي بصراع الثقافات والحضارات، وحركات تعمل على إثارة التوترات بين الشعوب والأديان»
صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة
بهذه النظرة الاستشرافية القارئة لمآلات القادم وتحولاته، والتي بات العالم يشهدها اليوم بقوة، ويتحسّس ضراوتها وصورها النمطية وتداعياتها السلبية، قدّم حاكم الشارقة كلماته المستنيرة الأثيرة لأهل المسرح في عام 2007 على منصة منظمة اليونسكو بباريس، ليراهن سموه على الوظيفة النبيلة للمسرح من خلال تجسيره للمُنقطع، ووصله للمُفترق، وتصفيته لكل ما يعكّر صفو التناغم والانسجام بين الثقافات والشعوب في هذا العالم.
ويأتي مهرجان أيام الشارقة المسرحية في كل دورة من دوراته الحاضنة للإبداع، كي يجسّد حلم حاكم الشارقة والأب الروحي للمسرح في الإمارات، في أن تكون الخشبة بتكويناتها الأدائية ورسائلها الجمالية، هي ضمير الإنسانية ولسان غاياتها وصوت قضاياها، ليبقى المسرح دائماً هو الوهج المعرفي المتبقي والصامد وسط كل الدعوات الظلامية والرؤى التشاؤمية.
ومنذ انطلاقتها في عام 1984، أفصحت أيام الشارقة المسرحية عن توجهّها الواضح لتكريس الفنّ المسرحي الرفيع والمداومة على تطويره بدءاً من أركانه الأساسية المتعلقة بالنص والإخراج وأشكال الأداء وأنماط السينوغرافيا، وصولاً للنواحي التقنية والجمالية المرتبطة بالمؤثرات السمعية والبصرية والديكور والمكياج، وغيرها من اللوازم الضرورية لتكوين البنية المسرحية القادرة على التعبير عن مستويات النص ورؤية المخرج.
الدورة الأولى
وانطلقت الدورة الأولى لمهرجان أيام الشارقة المسرحية برعاية كريمة ومباشرة من صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة، الذي كان واعياً لقيمة المسرح وتأثيره ومكانته الرفيعة بين الفنون الأدبية والتعبيرية الأخرى، المتقاطعة مع المسرح بشكل ظاهر تارة، وبشكل ضمني تارة أخرى، مثل الفن التشكيلي، والسينما، والموسيقا، والشعر والسرد. ويأتي هذا الاهتمام منقطع النظير بالمسرح من قبل سموه، بناء على رغبته في بناء الإنسان ثقافياً واستخدام الوسائل المتنوعة والمتعددة لتحقيق هذا الهدف وهذه الرغبة.
وقد دعا سموه إلى أسلوب خلّاق من التواصل الحضاري بين المكونات المحلية والعربية والإسلامية، بحمولاتها الدرامية العميقة، وبين المسرح اليوناني القديم والغربي الحديث، من خلال العودة إلى الأصول وإعادة الاعتبار إلى الموروث الثقافي العربي، وإلى تقاليد الفرجة الشعبية، دون انقطاع عن الروافد الإنسانية سواء في الشرق أو الغرب.
وقد حملت دائرة الثقافة والإعلام بالشارقة على عاتقها في ذلك الوقت، وضع الأسس الإدارية والخطط المنهجية القادرة على خلق حالة مسرحية ديناميكية ومتواصلة من خلال المهرجان، وذلك بالالتفات أولاً للفرق المسرحية المختلفة في إمارات الدولة، لدعمها وتشجيعها ودفعها للمشاركة في فعاليات المهرجان المتضمنة للعروض المسرحية والندوات التخصصية، ورغم قلة عدد الفرق المشاركة في الدورة الأولى، إلّا أن وجودها كان مؤثراً من ناحية استقطاب الجمهور وتحقيق الحراك المبكّر والمطلوب للتأسيس المسرحي القائم على خلق حالة ثقافية جاذبة بين المتلقّي وبين الخشبة، باعتبار أن العلاقة الجدلية بين الرائي والمرئي، هي علاقة محفّزة لكل ما يأتي لاحقاً من اهتمام رسمي وانتباه إعلامي واحتضان ثقافي.
الفترة التأسيسية
وعملت دائرة الثقافة والإعلام بالشارقة على وضع اللبنات الأولى للهيكل المسرحي بالإمارات، في عام 1981 أي قبل انطلاق المهرجان بثلاثة أعوام، وهو ما يمكن أن نسميه بالفترة التأسيسية، حيث وضعت بنداً خاصاً في الموازنة السنوية لعدد من الفرق المسرحية التابعة للإمارة، مثل: مسرح الشارقة الوطني، والمسرح الحديث، ومسرح كلباء الشعبي، ومسرح خورفكان، ومسرح دبا الحصن، إضافة إلى تقديم مساعدات أخرى تمثّلت في توفير عدد من النصوص المسرحية والعربية والعالمية، واستضافة مجموعة من المبدعين المسرحيين العرب والأجانب، مثل البريطاني ديفيد بيري، وجواد الأسدي من العراق، وفؤاد الشطي من الكويت، وعبدالرحمن المناعي من قطر، كي يحاضروا للفرق المسرحية المحلية، ويضعوا تصوراتهم ورؤاهم واقتراحاتهم لتطوير الفن المسرحي بالدولة. كما قامت الدائرة أيضاً خلال الأعوام الثلاثة السابقة على انطلاق الدورة من مهرجان أيام الشارقة المسرحية بإرسال الفرق المحلية لحضور المهرجانات المسرحية الخليجية والعربية التي قطعت شوطاً كبيراً في هذا المجال، مثل: مهرجان بغداد المسرحي، ومهرجان القاهرة للمسرح التجريبي، وأيام قرطاج المسرحية، ومهرجان دمشق المسرحي، وغيرها.
وكان هذا الفعل التأسيسي مهماً من ناحية الاستعداد للحدث المسرحي الأهم والأكبر في الإمارات، ومن ناحية تنمية الذائقة الجمالية لدى الكتاب والمخرجين والممثلين المسرحيين بالإمارات، فالاطلاع على التجارب المسرحية المتقدمة والمتنوعة سيؤدي من دون شك إلى تغيير النظرة الكلاسيكية السائدة إلى المسرح، وإلى إدارة الزوايا الإبداعية لدى الفنان المحلي للتماس مع قضايا ورؤى وأشكال مسرحية أكثر عمقاً وثراءً وتجدّداً.
ومع انطلاق الدورة الأولى لمهرجان أيام الشارقة المسرحية في عام 1984 كان أثر هذه الاستعدادات المبكرة لدائرة الثقافة والإعلام بالشارقة واضحاً وملموساً في عدد من العروض المحلية المشاركة في الحدث الثقافي التاريخي والأبرز حينها، وهو الحدث الذي احتضنته قاعة أفريقيا بالشارقة، وكما يرد في كتاب «أيام الشارقة المسرحية 1984 - 2004» الذي أعده كل من الإعلامي الراحل محمد عبدالله العلي، والدكتور يوسف عيدابي، وهيثم يحيى الخواجة، فإن الدورة الأولى شهدت مشاركة عشر فرق مسرحية، شارك بعضها في المسابقة الرسمية، وشارك البعض الآخر على هامش المهرجان، وهذه المسرحيات هي: «آه يا دنيا» و«الشيخ والطريق» و«بيت الحيوانات» و«حكاية صديقنا بانجيتو» و«جثة على الرصيف» و«رحلة إلى القمر» و«الجنون فنون» و«سر الكنز» و«مأساة أبي الفضل» و«الأرض بتتكلم أوردو».
دوائر متناغمة
إن إيراد أسماء هذه العروض يأتي في سياق أهميتها التاريخية، ولمساهمتها الفاعلة في إلقاء الحجر الأول في المياه الساكنة ثقافياً وفنياً وإبداعياً، مما كان له أثر لاحق في خلق دوائر متناغمة ومتقاطعة مع فورة النشاط الإنساني والجمالي في المشهد الثقافي المحلي منذ منتصف الثمانينيات الماضية والتي كانت بمثابة مختبر للتجارب الشابة والواعدة وقتها، وهي التجارب ذاتها التي صمدت في الساحة المسرحية وصقلت موهبتها وواظبت على تطوير أدواتها فنياً وأكاديمياً لتكون ضمن الصفوف الأولى في واجهة المسرح الإماراتي.
وسعت الدورة الأولى من المهرجان إلى وضع الأسس البنّاءة لحرفية العمل المسرحي وأصولها التي تهدف بالأساس إلى دعم وتطوير الحركة المسرحية المحلية في الدولة، وكذلك تعميق عادة الحضور إلى المسرح والمساهمة في مناقشة العروض وخلق قنوات اتصال سليمة ما بين المبدع والمتلقي، وتعويد الفنان المسرحي المحلي على تقبل النقد والآراء المتعلقة بعرضه المسرحي من أجل إثراء الحوار والتعرف على النقاط الإيجابية والسلبية على السواء.
المسرح للمجتمع
ومع تجاوز بعض السلبيات في الدورتين الأولى والثانية من المهرجان، بسبب حداثة التجربة الإدارية والفنية، كشفت نتائج الدورة الثالثة عن تباين إيجابي وتنوع ثري في عروض المسابقة الرسمية، حيث عقدت اللجنة المنظمة للمهرجان في عام 1986 اجتماعاً تمهيدياً قبيل انطلاق الدورة الثالثة برئاسة الشيخ أحمد بن محمد القاسمي، رحمه الله، لتصحيح الأوضاع وتمييز الوجهة التي يصبو إليها أهل المسرح في الإمارات، وتمخض الاجتماع عن عدة اقتراحات، أهمها تحديد الهدف من إقامة المهرجان وهو تنشيط الحياة المسرحية التي تبذل محلياً لرفد حركة المسرح وتعزيزها، إضافة إلى دعوة جهات مسرحية إلى استحداث جوائز تشجيعية وتقديرية للأيام المسرحية، وكذلك إصدار نشرة يومية للمهرجان تتضمن قراءات نقدية للعروض ولقاءات مع المشاركين وتغطيات للندوات والجلسات النقاشية التي تلي العروض. وقد أقيمت الدورة الثالثة تحت شعار: «المسرح للمجتمع»، وقدمت في يومها الختامي العديد من التوصيات للفنانين والفرق المشاركة، منها: ضرورة اختيار النصوص المسرحية الملائمة لإمكانيات وقدرات الفرق المسرحية، والتركيز على دور المخرج المبدع والمسيطر على أدواته في قيادة العرض المسرحي، كما طالبت لجنة التحكيم ببذل عناية أكبر عند تنمية وتكوين الكفاءات التمثيلية، ونوهت اللجنة إلى الابتعاد عن المباشرة واللغة الخطابية في العمل المسرحي، وغيرها من التوصيات والاقتراحات، التي ظهرت ثمارها في الدورة الخامسة من المهرجان المقامة عام 1988، فرغم قلة عدد الفرق المشاركة إلا أن وجود فرق من المسرح المدرسي، منح الدورة زخماً مختلفاً، وقائماً على تشجيع المواهب الصاعدة، والأخذ بيدها لتكون رافداً للأجيال المسرحية القادمة، بعد مساهمة الجيل السابق في تأسيس النواة الأولى والقواعد المبكرة للمشهد المسرحي المحلي، وتضمنت الدورة الخامسة عدداً من الندوات الفكرية المهمة في سياقاتها النقدية والجمالية، وتتصدّرها عناوين لافتة مثل: «العلاقة بين الممثل وأطراف العملية المسرحية الأخرى» و«مشكلات المسرح المحلي» وغيرها من الندوات.
مستقبل النص وتقنيات العرض
أما الدورة السادسة من المهرجان فقد أقيمت 1994 بالمركز الثقافي في الشارقة، بعد انقطاع طويل كان من أهم أسبابه الغزو العراقي لدولة الكويت، والتحديثات والتوسعات في أماكن العروض، حيث لم تعد قاعة أفريقيا مؤهلة لإقامة الفعاليات الثقافية والفنية فيها، ولكن رغم هذا الانقطاع فإن مشاركة الفرق المسرحية كانت فاعلة وجيدة، حيث شهدت نضجاً ملحوظاً فيما يتعلق بلغة العرض المسرحي، وكان هناك انتباه لدور المخرج في إيجاد مسرح محلي معاصر ومواكب للاتجاهات والتيارات الحديثة، عربياً وعالمياً، كما تطرقت الدورة في ندواتها المختلفة إلى جوانب ثقافية وفكريّة قيمة من أجل تطوير الفعل المسرحي، حيث ناقشت إحدى الندوات «مستقبل النص المسرحي في ضوء الواقع»، بينما ناقشت ندوة أخرى: «تقنيات العرض المسرحي - رؤية في المستقبل» كما تداول الضيوف والنقاد والفنانون علاقة المسرح بوسائل الإعلام المختلفة.
وشاركت في الدورة السادسة إحدى عشرة فرقة مسرحية، قدمت ثلاثة عشر عملاً مسرحياً تنافست على نيل جائزة المهرجان، وشهدت الدورة بزوغ أسماء محلية واعدة في مجالي الإخراج والكتابة. وقد جاء عدد من هذه الأسماء من خلفيات أكاديمية بعد العودة من الدراسة الخارجية، خصوصاً في دولة الكويت، بينما اعتمدت أسماء أخرى على ثقافتها المسرحية الخاصة، وعلى حماسها الإبداعي، ورغبتها الحثيثة في تحويل خشبة المسرح إلى ساحة تترجم الأفكار النوعية والقضايا الإنسانية، ونذكر من هذه الأسماء الشابة حينها: ناجي الحاي الذي قدم عرضاً مبهراً بعنوان: «بنت عيسى»، وكذلك جمال مطر الذي قدم عرضاً استثنائياً خارج العلبة الإيطالية بعنوان: «قبر الولي»، أما الفنان حسن رجب، فشارك بعملين أحدهما فني خالص هو: «قريباً من ساحة الإعدام» وعمل آخر جماهيري بعنوان: «مال الله الهجّان»، وقدّم الفنان محمد العامري نصاً بعنوان: «الشهادة» أخرجه الفنان المخضرم عبدالله المناعي، وشهدت الدورة بزوغ نجم الكاتب الراحل: «سالم الحتاوي» الذي قدم نصاً مسرحياً لافتاً بعنوان: «أحلام مسعود»، أخرجه الفنان عمر غباش، وكان للحتاوي دور كبير في إثراء المكتبة المسرحية لاحقاً، من خلال تركيزه على البيئة الإماراتية والقضايا المحلية، بلغة رشيقة وحوارات موظفة جيداً لخدمة الفكرة الرئيسية المطروحة في العرض، إضافة إلى اهتمامه بتوزيع الكتل الأدائية والسردية بشكل متوازن في فضاء النص ومناخاته. ومن الكُتاب والمخرجين الآخرين البارزين في هذه الدورة، نذكر: سلطان النيادي، وسعيد الحداد، وجاسم راكان.
نحو منظور متجدد
أما الدورة السابعة للمهرجان المقامة عام 1996 فقد اتسمت بتنوع جوائزها، وكذلك حصول عدد من العروض على نتائج مميزة كأفضل أعمال مسرحية، نذكر منها: مسرحية: «الملّه» الفائزة بجائزة أفضل عرض مسرحي متكامل، وهي من إنتاج فرقة مسرح الشارقة الوطني، ومسرحية: «ليلة زفاف» التي فاز كاتبها سالم الحتاوي بجائزة أفضل نص مسرحي، إضافة لجوائز أخرى عن فئات متنوعة، مثل: أفضل مخرج، وأفضل تمثيل رجالي، وأفضل تمثيل نسائي، وأفضل مناظر مسرحية، وغيرها.
وقدمت الدورة الثامنة للمهرجان عام 1998 قراءات مهمة حول مستقبل المسرح، وذلك من خلال ندوة كبرى حملت عنوان: «الطليعة المسرحية العربية: نحو منظور عربي متجدد للمسرح» وتناولت الندوة أشكال المسرح الجديد، وماهية التوجهات والتجارب الجديدة في عموم الوطن العربي ودولة الإمارات، وانتهت الندوة بتقديم ملاحظات عدة، منها: التأكيد على منظور حاكم الشارقة الذي يؤمن بأن المسرح وسيلة للوعي والتنمية، وأن مشاركة سموه بنصوص من تأليفه لإثراء المناخ المسرحي والعربي والدولي، هو دليل على حب سموه للتجديد والاستمرارية للفعل المسرحي في اتصاله مع النخب المثقفة ومع الجمهور العام، وخلصت توصيات الندوة إلى أن النشاط الواسع الذي يبرز خلال مهرجان أيام الشارقة المسرحية، يدفع إلى القول بأهمية أن تتواصل العروض المسرحية، وأن تتطور آليات التدريب والتأهيل للمسرحيين الشباب والهواة، للعمل على صقل تجاربهم، وكذلك ضرورة الاستفادة من المسرح العربي، والمعاهد المسرحية العربية، والتجارب المسرحية في إثراء الحياة المسرحية المحلية، وكذلك الاستفادة من الإعلام المقروء والمسموع والمرئي في توسيع رقعة العروض المسرحية خارج حدود المهرجان، لزيادة الوعي الفني والثقافة المسرحية، وتوفير برامج مسرحية في التلفزيون والقنوات الفضائية ما يؤدي إلى ذيوع المسرح المحلي وتفاعل الجمهور خارج القاعات مع رسائله وأهدافه وتقنياته التعبيرية.
ونقرأ في ملامح الدورة العاشرة من المهرجان التي أقيمت في عام 2000 الكثير من النقاط الإيجابية المساهمة من دون شك في تطوير وتجويد العمل المسرحي في المشهد الثقافي المحلي، ومن هذه النقاط: الإقبال الكبير على العروض من قبل الجمهور، واتسام العروض بالجديّة سواء كانت تراجيدية أو كوميدية، مما أثرى الليالي بروح الفن الراقي، والعطاء المسرحي الزاهي، باعتبار المسرح رافداً أساسيّاً من روافد الثقافة والتنوير والجمال.
ظواهر تجريبية ونماذج فارقة
أفرزت أيام الشارقة المسرحية العديد من التجارب المسرحية المتقدمة على يد نخبة من المبدعين الإماراتيين سواء في مجال الكتابة أو الإخراج أو الأداء التمثيلي، الذين تخرّجوا من أروقة المهرجان وقاعاته ونقاشاته، وقد تجاوزوا بنية الحكاية التقليدية الفارضة شروطها على المناخ البصري في التكوين المسرحي، باعتباره مناخاً لصيقاً بتفاصيل القصة المجسّدة على الخشبة، ولكن الإشكالية التي لم ينتبه لها المؤسسون للحركة المسرحية المحلية، كانت تتمثل في سيادة التصوّر الظاهري الملزم للنص، بدلاً من الاستئناس بالاقتراحات الجمالية البديلة التي يقدمها المخرج للتحرر من هيمنة النص. وتمثّلت الإشكالية الأخرى، في غياب الوعي المتعلق بمكان العرض، في مقابل المكان المتعلق ببيئة النصّ، الأمر الذي يدفع بالمخرج إلى اعتبار الحيّز المتاح على الخشبة هو الإطار الوحيد المناسب للعرض، ما يجعل حدود التخييل لديه محكومة بهذا الإطار المكاني الذي فرضه النص أولاً، وفرضته إمكانات الخشبة وحدودها ثانياً.
خيارات المخرج وإملاءات النص
ومع تواصل عروض ودورات مهرجان أيام الشارقة المسرحية تراكم الوعي الفني لدى المخلصين لموهبتهم، فظهرت نخبة من المخرجين المسرحيين الدارسين لفنون المسرح، ونخبة أخرى استفادت من احتكاكها بفنانين عرب وأجانب، ومن اطلاعها على تجارب متقدمة في هذا السياق، فأصبح المخرج المسرحي الإماراتي أكثر جرأة في البحث والتجريب واقتحام مناطق تعبيرية جديدة، وأصبح التعامل مع المكان المسرحي أكثر رحابة وانفتاحاً، وأكثر انتماء أيضاً لخيارات المخرج، لا لإملاءات النصّ، فرأينا المخرج ناجي الحاي، وهو يطلق حدوسه اللاهبة في مسرحية «حبة رمل»، التي نفذها في الهواء الطلق وعلى الرمال، التي احتفظت طويلاً بهذه البصمة المسرحية المغايرة، وقد ظلّ غبارها المضيء يهطل على الذاكرة الفنية في كل مرة يتم التطرق فيها للأعمال، التي خرجت من «العلبة الإيطالية» في مسيرة المسرح المحلّي. وهذا التمرّد الإيجابي هو الذي دفع بالمخرج جمال مطر إلى التصريح، وبشكل مباشر، بأن أعماله تقع خارج سلطة النص، وكانت مسرحية «جميلة» التي قدمها على شاطئ بحر الخان بالشارقة مثالاً واضحاً لهذا التحرّر من قيود المكان المؤثّث داخل النصّ. وبعد ناجي الحاي، وجمال مطر، جاء المخرج محمد العامري ليطلق تلك الإمكانات الهائلة لطاقة التجريد في فضاء العرض، فقدم «المكان» في أكثر من عمل له كحالة لا كبنية، وكانت الشخصيات والأحداث تبدو في أعماله تلك وكأنها تجري في الفراغ أو اللاّمكان، لأن انحياز العامري الأكبر كان للفكرة وكيفية إيصالها للجمهور، ولذلك كان يتخطّى طبيعة وملامح المكان، بحيث تكون السينوغرافيا المصوغة في بيئة العرض هي الخادمة للفكرة، لا العكس.
جماليات المكان
كان المسرحي الإماراتي الرائد عبدالله المناعي، وما زال، إحدى العلامات المضيئة التي انتبهت مبكراً لأهمية دور المخرج المسرحي في ابتكار عروض لا تخضع لضغوط النصّ، وأهمية أن تكون للمخرج تأويلاته الخاصة ونظرته المتعمقة لمستويات النص ودلالاته، فكان اختياره لمكان العرض داخلاً ضمن لعبته المسرحية الموزعة على الديكور والإكسسوارات والملابس والمؤثرات المصاحبة، ليتحول المكان إلى كتلة ذائبة داخل مكونات العرض الأخرى.
إن جماليات المكان المسرحي كانت دائماً ما تشغل بال المخرج الإماراتي، وكان الصراع دائماً ما يحتدم في ذهن هذا المخرج، حول كيفية توظيف واستثمار النص المسرحي ضمن آلية متأرجحة بين الاستدلال بهوية المكان المحلي، أو اللجوء لأشكال وأنماط تمسّ قضايا إنسانية وغير محكومة بزمان ومكان محددين، وكانت أغلب هذه الأعمال باللغة العربية الفصحى، باعتبارها أكثر انفتاحاً على الأفق الإنساني. ولأنه لا يمكن عزل ثقافة ومرجعية المخرج المسرحي عن بيئة العرض الذي يجتهد لتقديمها أمام الجمهور، فقد لجأ أغلب المسرحيين إلى خلق حالة من التوازن بين رغبتهم في التجريب والمغامرة، وبين اللاوعي المرتبط بالهوية والخصوصية المحلية، وشهد اشتغالهم على العروض المختلفة حالة من التناوب والتجاذب بين منطقتين مسرحيتين تبدوان على طرفي نقيض، ولكن حالة التوازن التعبيري تلك، جعلت من المكان أو بيئة العرض بالنسبة لهم، فضاء يستحق المناورة والتحدّي، والعمل دائماً على الانتصار لجوهر العرض المسرحي ولخطابه العام، بغض النظر عن الشكل أو البناء الظاهري الذي يقدم من خلاله.
التناغم المرهف
في مسرحية «أيام اللولو» لناجي الحاي، نجد هذا التناغم المرهف بين مقولة النص ولغة الإخراج العالية، والمستوى المتصاعد للأداء التمثيلي والإيقاع الدرامي، وتم تقديم العرض كما وصفه المخرج تماماً، فهو بلا ديكور، ولا أثقال ضخمة، ولا بهرجة أو حركة زائدة أو زمن طويل، وفعلاً رأينا في العرض ذلك الفراغ المكاني المهيب، والتقشف السينوغرافي الجارح، الذي يجعل العرض ممتلئاً بالممثل وحده، بخيباته وأفراحه ومراراته وانكساراته، لقد وضعنا الحاي أمام مرآة افتراضية هائلة، تعكس كل تناقضات الواقع واختلاله وعبثيته. وفي مثال آخر، على قوة التأثير الجمالي للمكان المسرحي نرى في عرض: «تحولات حالات الأشياء والأحياء» لمحمد العامري، أهمية كسر العلاقة بين الانطباع القائم على الوهم، وبين مجاراة الوهم نفسه، وتحليله وتفكيكه داخل المكان التخيّلي الذي يقترحه العرض، والذي يمزج هنا بين التكوين الحسّي، وبين التصوّر التجريدي، مستغلاً البنية الإيحائية للدمى الخشبية أو الماريونات، للانتقال من حالة الثبات والجمود إلى حالة ديناميكية، تجعل من هذه الدمى كائنات عاطفية لها أحلامها ولها أرواحها الناطقة في العتمة والصمت. وقام العامري بهندسة المكان المسرحي ليكون معبّراً عن منظوره الخاص لمعاناة هذه الدمى، وبالتالي نقلها من مفهوم «الشيئية» العاطلة إلى مفهوم «الأنسنة» النابضة، موظفاً السينوغرافيا والأزياء وملامح الفضاء المسرحي لصالح هذه النقلة الغرائبية من الثبات إلى الحركة، ومن المادة إلى الروح.