الموصل (أ ف ب) 

تحت مئذنة جامع النوري الحدباء التي تعود للقرن الثاني عشر، ينشط عمال، تكدّست من حولهم قطع الطوب والمرمر المتبقية ممّا دمره إرهابيو «داعش»، في أشغال ترميم تهدف إلى إعادة مدينة الموصل القديمة في شمال العراق، إلى الحياة، بمساجدها وكنائسها وبيوتها. وشكّل حيّ المدينة القديمة بشوارعه المتعرجة، الملاذ الأخير الذي تحصّن فيه عناصر تنظيم «داعش» قبل طردهم من المدينة في صيف عام 2017.
تنتشر في المدينة القديمة بالموصل اليوم ورش بناء وترميم ضمن إطار مشروع «إعادة إحياء روح الموصل» الذي أطلقته منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (يونسكو) بتمويل من دولة الإمارات العربية المتحدة والاتحاد الأوروبي.
وفي الساحة المحيطة بمسجد النوري، لم يبق من المئذنة الحدباء التي بنيت قبل 850 عاماً سوى القاعدة، تغطيها قطعة من البلاستيك. ودُمّر الموقع في عام 2017 بعدما فجره الإرهابيون.
ويقول عمر طاقة، أحد مهندسي اليونسكو المشرفين على الأعمال في الموقع: «المئذنة الحدباء تمثل إيقونة الموصل، هي رمز المدينة». ويضيف: «أهل الموصل كلهم أمل أن يروا المئذنة الحدباء تعود إلى ما كانت عليه، وأن تعود إلى المكان نفسه».
أما الجزء الأوسط من المسجد نفسه الذي تعلوه قبّة، فقد نجا من الدمار، وهو عبارة عن هيكل فارغ، تسند قناطره ألواح خشبية، فيما تعلو أعمدة المرمر الرمادية التي تطوّقه زخرفات زرقاء.وبعد إزالة 5600 طن من الركام، تنطلق أعمال ترميم المئذنة في مارس على هامش زيارة للمديرة العامة لليونسكو. وبعد ذلك، تبدأ الأعمال على المسجد هذا الصيف. ويتوقع أن ينتهي العمل في الموقع بحلول نهاية عام 2023.
ويقول المهندس عمر طاقة «في مصلّى الجامع فقط، عثرنا على 11 عبوة ناسفة غير منفجرة معدة للتفجير، قسم منها كان مزروعاً داخل جدران المصلى».

كنيستا الطاهرة والساعة
وفي انتظار إعادة بناء مطابقة لما كان عليه الموقع قبل التدمير، يجري حفظ القطع الأكثر هشاشة في مخزن. ومن بينها، أجزاء المنبر القديم، فضلاً عن قطع محراب. وتتوزع قطع من الطوب على رفوف المخزن سيُستخدم 45 ألفاً منها، أي الثلث، في إعادة بناء المئذنة.
ولا يزال الموقع مليئاً بالمفاجآت. فقد تمّ العثور في يناير على قاعة صلاة تحت الأرض تعود للقرن الثاني عشر. وجمعت اليونسكو من أجل مشروع «إعادة إحياء روح الموصل» 110 ملايين دولار. وبالإضافة إلى مسجد النوري، يجري العمل أيضاً لترميم كنيستي الطاهرة والساعة، ومئات المنازل، ومدرسة الحيّ.
وخلقت أعمال الترميم التي كلّفت بها شركات محلية، أكثر من 3100 فرصة عمل، أكثر من نصفها لشباب تلقوا تدريباً في الحرف التراثية وإعادة ترميم المباني، وفق اليونسكو. وهكذا، أصبح أزهر الذي كان يبيع الفواكه والخضار على عربة في المدينة القديمة قبل الحرب، عاملاً في موقع ترميم مسجد النوري.
ويقول الرجل البالغ من العمر 48 عاماً والأب لخمسة أطفال: «البيوت كلها وقعت، الناس كانوا في المخيمات وهذه الشوارع كلها كانت مدمّرة». والحال أن بعض جراح الذاكرة لم تندمل بعد. فرغم إصرار زملائه، يرفض أزهر الحديث عن زوجته المتوفاة.

منزل أجدادنا 
وعادت الحياة إلى طبيعتها في زوايا الحي. وعلى مقربة من هنا، تقع كنيسة الطاهرة للسريان الكاثوليك التي لا تزال تنتظر ترميمها. ويقول المهندس أنس زياد إن سقفها وأساساتها انهارت نتيجة القصف.
ويمكن رؤية حفرة في الأرض حيث كان يقع بهو الكنيسة التي شيّدت في عام 1862 لتشكّل امتداداً لكنيسة مجاورة يبلغ عمرها 800 عام. وقرب باحة الكنيسة، حُطّمَت صلبان ومنحوتات إيقونية كانت معلّقة على الجدران.
وفي الأزقة الضيقة، عشرات المنازل قيد الترميم. بعضها عمره بين 100 و150 عاماً. وخلف الأسطح والباحات المموهة بخيوط الشمس، تظهر الواجهات المرمرية الأنيقة المزخرفة بعضها بنقوش تعود للحقبة العثمانية.
ويقول المهندس مصطفى ناظم المشرف على إعادة ترميم المنازل: «لدينا في المرحلة الأولى تقريباً 44 بيتاً، أغلبها اكتمل وستسلّم في نهاية شهر مارس». ويبقى 75 بيتاً لترميمه بحلول نهاية العام. ويشمل المشروع أيضاً، البنية التحتية.
ومنذ بضعة أشهر، عادت إخلاص سالم لتسكن بيتها. وعندما تفقدته للمرة الأولى بعد الحرب، كان المبنى مدمراً بالقصف، بينما سرقت منه الأغراض القيّمة. وتقول المرأة البالغة من العمر 55 عاماً: «هذا بيت أجدادنا، عمره أكثر من 100 عام».
وتضيف أن إعادة ترميم البيت أراحت نفسها. وتعمل إخلاص على إعداد طعام الغداء لابنيها اللذين سيأتيان إلى المنزل لاستراحة الظهر. ويعمل الشابان في الحيّ نفسه، في ورش إعادة الترميم.