محمود إسماعيل بدر

تشير العديد من الروايات والدراسات النقدية إلى أن الحضارة العربية الإسلامية، قد عرفت العديد من الظواهر المسرحية التي تعدّ -من دون شك- ضمن الحصيلة الشعبية المتبقية من الممارسات التراثية لأبناء هذه الأمة، سواء منها ما تبقى من ممارسات شعبية عرفتها شعوب المنطقة قبل الإسلام أو ما تمت ممارسته بعد ظهور الإسلام، والعودة إلى دراسة هذه الظواهر، وإعادة انبعاثها من جديد، علاوة على أن قضية التأصيل والهوية في المسرح تعدّ أمراً مهماً، ما يؤكد في السياق أن فن المسرح في المنطقة العربية، قد نشأ معتمداً على جذور دينية وشعبية وتراثية، وأن دراسة هذه الظواهر، ستطلعنا بلاشك على العديد من الملامح الفنية والدرامية ذات الصلة بفن السرد والحكاية، التي جعلت الكثير من المتخصصين المحدثين يربطون بينها وبين الأشكال المسرحية المعاصرة.
هناك ظواهر مسرحية عديدة في مسرحنا العربي، وهي ظواهر جليلة وتحمل دلالاتها وأبعادها، منها «الراوي - الراوية» و«شاعر الربابة» و«القصّاص» و«الفصل المضحك - المسرح الشعبي الارتجالي والسامر الشعبي»، و«مسرح الحلقة» و«مسرح البساط» وفن «خيال الظل» و«الحكواتي - الحكاء - الحاكية»، ولعل هذا اللون من الفنون الأدائية، أكثر ما يعنينا في هذا الموضوع، باعتباره واحداً من الفنون العربية التمثيلية التي عرفها العرب قبل الإسلام، واستمر بعد ذلك مروراً بظهور الإسلام، ثم العهدين الأموي والعباسي، وصولاً إلى العهد العثماني في تاريخنا الحديث، إلى أن نصل إلى فن الحكواتي في المسرح العربي المعاصر، حيث يتخذ له أشكالاً مختلفة، ومع ذلك يظل محافظاً بقوة على سماته المرتبطة بالسرد وإدهاش الجمهور بشكله الاحتفالي المهيب.

تطور فن الحكواتي
ويصف الدكتور أحمد صقر، في كتابه «توظيف التراث الشعبي في المسرح العربي»  الحكواتي، بأنه شخصية تتمتع بقدرات فنية متعددة، فهو يقص لنا حكاية من الحكايات التراثية، ويرويها ويجسدها -يشخصها- بأسلوبه معتمداً في ذلك على تعابير وجهه وحركات يديه وجسده كله، موظفاً في كل ذلك طبقات صوته الجهوري القوي، محاولاً من خلال كل هذا، جذب اهتمام الجمهور وإمتاعهم وإدخال السرور على نفوسهم، وعليه نستطيع القول إن الحكواتي إلى جانب كونه يمتّع السامعين، فهو أيضاً وسيلة توعوية، حيث يطلع جمهوره على كثير من الظواهر الاجتماعية والإنسانية، مما يقرّب وظيفته من الوظيفة الاجتماعية والثقافية والترفيهية التي يتمتع بها المسرح بمعناه الأعم والأشمل.

  • حكواتي العراق «القصخون» (من المصدر)

وقد مر فن الحكواتي، مع تطور المجتمعات العربية، بعدة مراحل نتج عنها تطور كبير في سماته ووظائفه الفنية، ففي العصر العباسي على سبيل المثال، نجد أنه قد مرّ في ظهوره بمرحلتين، بحسب الدكتور شوكت عبدالكريم البياتي في كتابة «تطور فن الحكواتي في التراث العربي وأثره في المسرح العربي المعاصر» إذ يوضح أن «المرحلة الأولى تمثلت في العصر العباسي عندما ظهر الحكواتي بديلاً للقاص الذي تراجعت منزلته، وأصبح الخاصة لا ينظرون إليه نظرة الاحترام والتبجيل، فتحول إلى العامة من الناس يسامرهم في مجالسهم ويشاطرهم أعراسهم، وهكذا بدت ملامح المرحلة الأولى لظهور الحكواتي في القرن الرابع الهجري للعصر العباسي. أما المرحلة الثانية فقد جاءت في القرن الخامس الهجري، وهي مرحلة تطور فن الحكواتي في أعقاب سقوط مدينة بغداد على يد التتار، وقد ارتبط الحكواتي منذ بداياته الأولى في ممارسته لمهامه المعقدة بالحكايات العربية الشعبية والأسطورية في محاولة منه وسعي حثيث لأن يصل إلى مكانة (الممثل المؤلف)، ويرى عدد من الدارسين والباحثين في التراث العربي، أن في النتاج الأدبي للحكواتي، مع ما يتمتع به من صفات وخصال وموهبة وخيال خصب محلّق، ما يميزه ويكسيه صفة التمثيل والتأليف، وتهذيب المواضيع والقصص، بما يقرّبها للجمهور في فترات مختلفة.

«القصخون»
ونحن نتحدث عن الحكواتي بما له من هيبة وخصوصية، ومزايا متوارثة، نشير إلى أنّه فنان مبدع من نوع خاص، فهو يمتلك قدرة استثنائية على تقليد أصوات البشر والحيوانات، ويستخدم هذه الممكنات الفنية ببراعة من أجل إدخال المتعة والسرور على المشاهدين، ويتحدث الدكتور الناقد علي الراعي في هذا الصدد في كتابه «المسرح في الوطن العربي» فيقول: «يقص الحاكي على المستمعين نوادر الأخبار وغرائبها، ويتفنن في تقديم تقليد هزلي للنازلين ببغداد من الأعراب والخراسانيين والزنوج والهنود وذوي العاهات، ولا يأنف من تقليد الحيوانات، فيضحك الناس، ويختبر مزاجهم».
وفي العراق مثلاً اتخذ الحكواتي شكل ما يسمى بـ«القصخون»، والكلمة تركيب لفظي من العربية والفارسية، تدل على الشخص الذي كان يقرأ القصص شفاهاً أو من كتاب، بحسب الباحث محمود العيطة في كتابه «الفلكلور في بغداد 1990»، ومعنى ذلك أن القصاص أو قارئ القصص الذي يعدّ مثالاً عن فن الحكواتي العراقي قد ظهر في مقاهي بغداد، حيث يتشابه في وظائفه وطريقة أدائه مع مثيله في مقاهي القاهرة وبلاد الشام.

  • من عروض الحكواتي في مصر

الحكواتي في مصر
برز دور الحكواتي في مصر من خلال شكلين من أشكال التعبير الشعبي، الأول تمثل في المنشد «شاعر الربابة»، والثاني اتخذ شكل السامر الشعبي، والسامر لا يعود وحسب إلى عصور ما قبل ظهور الإسلام، ولكنه يعود إلى البدايات الأولى للحضارة الفرعونية في مصر القديمة، وحضارة وادي الرافدين، وبحسب الدكتورة نادية رؤوف في كتابها «يوسف إدريس والمسرح المصري»، فإن هذا النوع من السمر، كان يؤدي عادة في الأفراح والاحتفال بالختان (الطهور) وولادة الأطفال أو للترفيه عن الفلاحين البسطاء في ليالي الصيف، وبذلك فإن «السامر» هو شكل من أشكال الممارسة الشعبية لفنوننا القولية والأدائية التي عرفته البيئة المصرية، ونقل في شكل مسرحي طوّره الكاتب محمود دياب في العديد من المسرحيات أهمها مسرحية بعنوان «ليالي الحصاد».

«منشد المغازي»
أما في بلاد المغرب العربي وبخاصة في الجزائر التي اشتهرت بالحكواتي و«القره قوز»، وهما شكلان من أشكال التعبير الشعبي نجحا معاً في مواجهة الاحتلال الفرنسي بالنقد اللاذع والسخرية، مع أنهما وجدا قبل هذا الاحتلال للجزائر عام 1830، فقد اتخذ الحكواتي في الجزائر اسم «منشد المغازي» وهو يشبه في مسماه «الراوي» من حيث الوظيفة، كما يتفق أيضا مع الحكواتي من حيث الأداء والتجسيد، ويقصد بمنشد المغازي -أي منشد الغزوات والحروب، وهو شكل قصصي ينشده الرواة المحترفون في الأسواق الشعبية والتجمعات بمصاحبة عزف على الآلآت الموسيقية التقليدية ويؤدى درامياً.

جذور تاريخية
وقد عرف الحكواتي في تونس أيضاً تحت اسم «الراوية»، ولم يختلف دور الراوي هنا كثيراً عن الدور الذي عرفته مصر، بل لعلها شخصية مسرحية لها جذورها في التاريخ الإنساني، فقد وجدت قديماً في المسرح الإغريقي، حينما كانت مجموعات من رواة الشعر في الأعياد الأثينية تقوم بإنشاد أشعار هوميروس، وقد استمر دور الراوي وهو شخصية مسرحية منذ القدم، واستخدم الراوي كثيراً في المسرح العربي المعاصر، فقد وجدناه عند الدكتور رشاد رشدي في مسرحية «بلدي يا بلدي» وفي مسرحية «بير السلم» لسعد الدين وهبة، وعند صلاح عبدالصبور في مسرحية «مسافر ليل»، وعند الدكتور يوسف إدريس في «الفرافير»، وعند نجيب سرور «آه يا ليل يا قمر، ياسين وبهية، منين أجيب ناس».  وكذلك نجد مثله عند شكسبير في معظم مسرحياته وخاصة «هاملت».
وما زال الراوي يظهر لنا كل فترة، في أعمال مسرحية مختلفة، بصورة يطرأ عليها نوع من التطوير في الشكل والأسلوب وطريقة الاستهلال.

حكواتي في الإمارات
نشير إلى أن العاصمة أبوظبي، ومن خلال فعاليات مهرجان أبوظبي لعام 2010، قد اهتمت بنقل تجربة فن الحكواتي إلى الجمهور الإماراتي، فقد كانت مجموعة أبوظبي للثقافة والفنون، ومن خلال هذا المهرجان الذي يجمع بين الموسيقى والمسرح وسائر الفنون المتطورة، سبّاقة في برنامجها في التركيز على إعادة إحياء فن سرد الحكايات أو «الحكواتي» الذي قدّم عبر هذه الاحتفالية مسرحيات قصيرة مسلية وترفيهية، مستوحاة من حكايات «ألف ليلة وليلة»، قدمها الحكواتي الشهير في فلسطين أحمد يوسف.