يقول طرفة في بيته الشهير:
ولا أغير على الأشعار أسرقها
عنها غنيت وشر الناس من سرقا
وهو بيت ورد في عصر مبكر من عمر الشعر، وخص سرقة الأشعار تحديداً مما يعني شيوع ذلك، وهذا يفسر لنا سبب تضخم الحديث عن السرقات الشعرية في متون الكتب العربية مع ازدهار عصر التدوين وانبثاق حركة التأليف، مما يعزز الفكرة التي كشفها الأخطل بقوله: «نحن الشعراء أسرق من الصاغة»، وهنا يحضر الشعراء في مبارزة مهنية مع الصاغة، وكأن هاتين الفئتين هما أعلى طبقات السراق، وفكرة الذهب المغشوش تتفوق عليها فكرة الشعر المسروق، ولم يسلم أحد من الفحول من تهمة تلاحقه في السرقة، وكلما كبر شأن الشاعر كبرت معه تهم السرقة، ولذا سنرى الشاعر والمسرحي الألماني بريخت يقول: وشكسبير كان أيضاً سارقاً، قالها في الرد على من اتهموه بأن في مسرحياته روائح سرقات.
والقضية في أكثر حالاتها هي في تشابه المعاني، وإن كان الجاحظ يقول: إن المعاني مطروحةٌ على الطريق، ولكن العبرة باللفظ الحسن، وهذه حقيقة سنراها في حال بشار بن برد حيث بيته الذي يقول فيه:
مَن راقَبَ الناسَ لَم يَظفَر بِحاجَتِهِ/ وَفازَ بِالطَيِّباتِ الفاتِكُ اللَهِجُ
فأخذ سلم بن عمرو بن حماد البيت وأعاد صياغته بقوله:
مَن راقَبَ الناسَ ماتَ غَمّاً/ وَفازَ بِاللّذَّةِ الجَسورُ
مما أغضب بشار بن برد وقال: «ذهب والله بيتي» وفعلاً، فقد ضاع بيت بشار، حيث شاع قول سلم بن عمرو وانتشر في ذاكرة الثقافة، فشطره الأول أصبح مثلاً يجري على كل لسان من دون أن يعرف مردده أنه شطر لشاعر مغمور لحقته تسمية سيئة هي «سلم الخاسر» بسبب قصة تقول: إنه باع مصحفه ليشتري في قيمته طنبوراً يعزف عليه، وهي القصة التي حظيت بالرواية ومنحته اسماً غير اسمه الحقيقي، ولعل الثقافة عاقبته بنشر شطري بيته مجزأين فرقتهما عن بعضهما، إذ يجري قول عبارة «وفاز باللذة الجسور» معزولةً عن «من راقب الناس مات غماً»، وكلتا العبارتين سارت مسار المثل مع الغفلة دوماً عن جمعهما معاً، أو تصورهما من قول قائل محدد، ودخلت الجملتان بوصفهما مقولتين أو مثلين كسائر الأمثال التي يختفي قائلها الأول وتبقى إشارةً حرةً تجري على كل لسان من دون تحرز، وكأن الثقافة تمارس سرقتها النوعية الخاصة، والأكيد واقعياً هو غلبة اللفظ على المعنى والكاسب دوماً هو من جرى المعنى عنده بصيغة لفظية تفوق سابقتها فتنسخ السابقة في مبارزة بلاغية بين الصيغ وسيحل المعنى في الصيغة الأجود، منتصراً للفظ الذي سيصبح البيت المؤهل لسكنى تليق بالمعنى الشريف في اللفظ الشريف، وهذا انحياز ثقافي للفظ والتعبير الحسن، وتنتصر البلاغة على الفكر، ولن يتمكن الفكر من التوثق إلا عبر صيغة تصونه وتحفظه لتعاقب الأجيال عليه، ولذا انتصر بيت سلم الخاسر على بيت بشار، رغم صغر شأن سلم مقابل شأن بشار وحفظت الذاكرة بيت سلم وإن شطرته لجملتين.
والذاكرة الجمعية دوماً هي الحكم، فقد حكمت الثقافة للمتنبي ولشكسبير بالبقاء والخلود رغم جهود الباحثين في تتبع سرقات كل من المتني عربياً وشكسبير إنجليزياً، لدرجة أن هناك درسات تتكلم عن «الشكاسبرة» كما عندنا درسات تتكلم عن «المراقسة»، حيث يتعدد امرؤ القيس حسب قول الأصمعي إن معظم شعر امرئ القيس لصعاليك كانوا معه، ومثل ذلك قيل ويقال عن شكسبير في نهله من مصادر سابقة عليه.