الفاهم محمد

خلال شهر ديسمبر نهاية السنة المنصرمة، وبعد انتظار طويل تم إطلاق التلسكوب جيمس ويب JWST إلى الفضاء الخارجي، انطلاقاً من منطقة غويانا، ليكون بذلك أغلى تلسكوب في تاريخ غزو الفضاء، بميزانية فاقت عشرة مليارات دولار. تعود البدايات الأولى لفكرة هذا المشروع لسنة 1996 وكان من المنتظر أن تتم عملية الإطلاق سنة 2007، غير أن الأمر تم تأجيله مراراً إلى أن وصلنا لليوم المشهود، وهو 25 ديسمبر من السنة الماضية.
تمت تسميته على شرف اسم الرئيس السابق للناسا جيمس ويب، الذي ترأس الوكالة ما بين 1961 و1969، وهو الرئيس الذي أشرف على مشروع أبولو الشهير، وكانت مجهوداته السبب في نزول أول إنسان فوق القمر.
قدر لهذا الإنجاز العلمي الضخم، الذي ساهمت فيه ثلاث جهات هي أميركا وكندا وأوروبا، أن يكون خليفة للتلسكوب هابل، بل أن يتجاوز حدود الرصد التي وصل إليها هذا الأخير، وأن يمكن البشرية من الإجابة على الأسئلة المقلقة بخصوص نشأة الكون وظهور الحياة.
يعتبر جيمس ويب أكبر مرقاب صنعته البشرية لحد الآن. الحجم الكلي يقارب مساحة ملعب التنس، أما المرآة فتتكون من 18 خلية بمساحة تبلغ أكثر من ستة أمتار ونصف، وهي مساحة تسمح بتجميع أكبر كمية من الضوء، القادم من الأعماق السحيقة للكون، وبالتالي تكوين رؤية واضحة على البدايات الأولى للكون. هذا الحجم الكبير من المستحيل حمله هكذا إلى الفضاء الخارجي، لذلك كان الحل الذي فكر فيه المهندسون، هو أن يكون قابلاً للطي والإدخال في رأس الصاروخ الفضائي، كي يتمكن من الانفتاح عند وصوله لمكانه وهي نقطة لاغرونج الثانية التي تنعدم فيها الجاذبية.
قطع المرايا الـ 18 مصنوعة من الباريليوم، وهي مادة خفيفة في الوزن وأقوى ست مرات من الألمنيوم، أما الدرع الواقية من أشعة الشمس فتتكون من خمس طبقات، مهمتها حماية العدسة والمرآة الرئيسة والكمبيوتر المركزي المسؤول عن تجميع المعلومات وإرسالها إلى الأرض.
من المقدر أن يتموقع هذا التلسكوب خلف الكرة الأرضية، على مسافة تبعد بحوالي مليون ونصف كيلومتر. هذه المسافة البعيدة إيجابياتها، هي أنها منطقة باردة تسمح للتلسكوب بالاشتغال عن طريق الأشعة ما تحت الحمراء، لكن سلبياتها هي أنها ستحول بيننا وبين الوصول إليه في حالة وجود عطل ما. هذا معناه أن كل المهام التي سيقوم بها، والتي تتطلب حوالي ستة أشهر، عليها أن تنجز بدقة متناهية من دون أدنى خطأ.
طبعاً استطاع الإنسان تكوين تلسكوبات كبيرة فوق الأرض، ولكن رغم كبرها فإمكانات الرصد لديها ستظل محدودة بسبب عوامل التشويش المناخي، مثل السحب والأغلفة الجوية وغيرها التي تحول دون تجميع الضوء الخافت المنبعث من هذه النجوم. وإذن كان من الضروري تجاوز كل هذه المعوقات وتخطي الرصد الأرضي، نحو وضع التلسكوبات في الفضاء الخارجي. كانت البداية كما هو معروف مع هابل الذي استطاع بالفعل التقاط صور رائعة للكون والمجرات الخارجية. والآن تستمر العملية مع جيمس ويب ولكن بقدرات وطموحات أكبر.

مهمتان أساسيتان
هناك مهمتان أساسيتان ملقاة على عاتق جيمس ويب إنجازهما: الأولى التقاط الضوء الذي صدر عن أولى النجوم التي تشكلت في الكون، مباشرة بعد الانفجار العظيم. والثانية هي اكتشاف الكواكب الخارجية الشبيهة بالأرض، والتقاط المعلومات والمؤشرات الدالة على وجود حياة على الكواكب الأخرى.
علينا أن نكون على علم بنقطة مهمة جداً، وهي أن كل الأحداث الكبرى التي وقعت في بداية خلق الكون مثل ظهور النجوم والكواكب والمجرات وغيرها قد حدثت في الماضي؛ أي أزيد من 13 مليار سنة. لكن هذا الماضي السحيق لا يزال بإمكاننا رصده كما لو أنه يحدث الآن، لأن الضوء الصادر عن هذه الوقائع لا يزال يسافر في الفضاء وبالتالي إذا قمنا بتجميعه، سنتمكن من تكوين صورة واضحة عما حدث. يمكننا أن نشبه إذن التلسكوب بآلة للسفر عبر الزمن، تعود بنا إلى الوراء كي تخبرنا بما حدث.
إن المهمة الأولى ستكون محض معرفية، من شأنها أن تكمل القطع الناقصة في نظرية الانفجار العظيم، ولم لا أن تصحح ما كان مغلوطاً فيها، غير أن المشكلة ستطرح مع المهمة الثانية، فجيمس ويب بإمكانه أن يصور بوضوح تام الأغلفة الخارجية للكواكب التي تدور حول نجومها، وبالتالي بإمكاننا أن نعرف بدقة عما إذا كانت هذه الكواكب صالحة للحياة، أو ربما ! مأهولة بالحياة، سواء كانت نباتية أو بيولوجية. بطريقة أخرى سيمكننا جيمس ويب من تقديم جواب نهائي حول السؤال المؤرق: هل نحن لوحدنا في الكون؟ وكما قال أحد العلماء فإن الجواب بالإيجاب أو بالسلب على هذا السؤال سيكون صادماً. أي أنه سواء عرفنا أننا لوحدنا في الكون، أو أن هناك حيوات أخرى، فإن الحقيقتين ستكونان صادمتين. بل يمكن القول بالتأكيد إن حقيقة اكتشاف وجود حياة أخرى وخاصة إذا كانت حياة عاقلة، ستكون أكثر إخافة للإنسان. فظهور المسيح من جديد في حياتنا، هو أهون علينا من ظهور الكائنات الفضائية، وذلك على الأقل لأن المسيح هو جزء من التراث الإنساني، ويدخل ضمن الحقل المفهومي للمعرفة والاعتقادات البشرية. أما الكائنات الفضائية ورغم التأكيدات العلمية باحتمالية وجودها، فهي تقع خارج نطاق القدرة الطبيعية للذهن البشري، إضافة إلى هذا فقد علمنا التاريخ، أن ظهور حضارة قوية غير منتظرة أمام حضارة ضعيفة، تكون له نتائج وخيمة وكارثية على هذه الأخيرة. لقد أدى لقاء الحضارة الأوروبية مع حضارات أميركا اللاتينية إلى دمار شامل للمايا والاستيك مثلاً.
لكل هذه الاعتبارات لا عجب أن تقوم الناسا بالإعداد النفسي لعلمائها، من أجل استقبال هذه المعلومات التي سيزودنا بها التليسكوب خلال الأشهر القادمة، والتي قد تكون غير مسبوقة في تاريخ البشرية.
هناك مهام أخرى من المنتظر أن يسلط عليها جيمس ويب الضوء، وهي الكشف عن الكوكب التاسع الغامض، الذي تحوم حوله الكثير من الشكوك، وهو كوكب نيبرو كما تسميه الأساطير البابلية. وهو الكوكب الذي يعتقد أنه لو اقترب من المجموعة الشمسية من المنتظر أن يسبب كوارث هائلة للأرض. وإذن ستكون هذه مناسبة لحسم هذا الموضوع نهائيا.
هناك الكثير من نقاط الضعف المرافقة لهذا المشروع، إذ يمكن أن تتمزق واحدة من الأشرعة الحامية للمرقاب، أو يأبى برغي من البراغي في الانفتاح، أو غيرها من المشاكل وهي كلها أخطار لو حدثت قد تنسف بنجاح المشروع المشروع برمته. وإذن فالأمر بشبه رمية نرد من الأرض إلى الفضاء الخارجي على مسافة تزيد كما ذكرنا سابقاً بمليون ونصف كيلومتر، مع المراهنة على أن هذا النرد سيسقط تماماً على الرقم الذي تمت المراهنة عليه. ولكن رغم كل هذه الأخطار جميعها فالمخاطرة مستحقة، بالنظر إلى حجم المعارف والحقائق المنتظر كشفها. ورغم أن هذا المشروع الضخم لن بجيبنا مع ذلك على كل الأسئلة الجوهرية بخصوص الكون والحياة، فهو لن يستطيع مثلاً تجاوز جدار ماكس بلانك ورؤية ما قبل الانفجار، إلا أنه من دون شك ستتمكن البشرية لاحقاً، من تغيير نظرتها للكون، ومن التمييز بين ما قبل تلسكوب جيمس ويب وما بعده.