فاطمة عطفة
المكان الذي نقيم فيه، والأرض التي نعيش عليها تترك في نفوسنا وأفكارنا آثاراً وصوراً لا تنسى، ويتجلى حضورها الجميل في ذكرياتنا، وقد ينعكس أيضاً في الأعمال التي نقوم بها، ولكن حساسية الفنان أو الشاعر والروائي خاصة تلتقط هذا التأثير برؤية متميزة عما سواها؛ ولذلك نجد الأرض وملامحها الطبيعية تظهر وتتداخل في أغلب الفنون البصرية والأعمال التشكيلية والأدبية. ولقراءة جوانب من أهمية المكان في حياتنا واستجلاء مدى تأثيراته عليها، نلتقي بفنانين تشكيليين بارزين للحديث عن جماليات المكان وإيحاءاته الفنية والرمزية في أعمالهما وتجاربهما، وتالياً ما تشكله من متعة في نفوس المتلقين والمتذوقين للأعمال الفنية أيضاً.
في هذا المقام تقول التشكيلية الدكتورة نجاة مكي: إن للمكان في خيال الفنان روحاً ويكتسي أهمية استثنائية، فهو يرتبط بأفراد وذكريات، سواء كانت هذه الذكريات جميلة أو العكس، وفي كلتا الحالتين تبقى للمكان ذكرى وحضور في الأذهان والوجدان. فالمكان فيه نقاط جذب، فقد يكون هناك مكان يجذب الإنسان ويجب ألا يفارقه، ويصبح بينهما علاقة ذات جاذبية خاصة، وعلى سبيل المثال فالبيوت العتيقة تكون لها رائحة مميزة مثل رائحة الأم، وفيها حنان تشعر به الأرواح. ومَن سكنوا في بعض الأماكن والصروح العتيقة، سواء كانت قصوراً أو أماكن تراثية، يشعرون بأن جميع هذه المباني لها نوع من الجذب الروحي والوجداني الذي لا تكاد تخطئه الملاحظة.
ذكرى متجذرة
وتستطرد د. مكي: أحياناً كنا نجلس مع جداتنا أو مع الجيران ونتجاذب معهم أطراف الحديث وتكون لحديثهم حميمية وذكرى متجذرة في النفس والوجدان، حيث تبقى كل صغيرة أو كبيرة، مدونة في الذاكرة عن تلك الأماكن التي عاشوا فيها، وكانت فضاءً مكانياً لحضورهم الدائم في الذهن والذاكرة والوجدان. وعندما نعيش في بيت من البيوت قد تنشأ في أذهاننا علاقة من نوع خاص مع الجدران والنوافذ وإطلالتها يصعب أن تغيب عن ذاكرتنا لزمن بعيد، ويمكن لمشهد عابر كعصفور وقف على هذه الشرفة، أو طفلة رأيتها من تلك الإطلالة، أو أي منظر أو ذكرى جميلة أخرى حتى لو كانت عابرة، أن تولد في الذهن نفس الحميمية والخصوصية النفسية والشعورية ذات الأثر الخاص.
حديث الجدار
ولكن، ماذا استلهمت الفنانة نجاة مكي من الأماكن التي عرفتها، أو عاشت فيها خلال رسم اللوحة تقول: كان عندي مشروع سميته «حديث الجدار»، وحول علاقتي بالأماكن فروح المكان عندي لها أثر عميق، فمعظم الإبداعات تكتسي جمالية مميزة من المكان الذي ولدت فيه. وأتذكر بيت جدي القديم في بر دبي، فصورة ذلك البيت وتفاصيل المكان أشعر أن فيها مغناطيساً وروحاً وجاذبية خاصة تشدني إليه بقوة.
ولأن ملامح الأماكن في الإمارات متنوعة، فماذا تضيف هذه الألوان لفن نجاة مكي؟ تقول: الألوان لها خصوصية كذلك في الأماكن، فمن قبل كنا نسكن في بيت جدي خلال فصل الشتاء، وفي الصيف نروح البر، ونقول له النخل، وهنا تختلف الأماكن وتكون الجلسة في العريش وهو من سعف النخيل، ثم مشهد الصحراء وكثبان الرمال، فهذه الأشياء تشكل بانوراما جمالية بصرية وتظهر كل هذه العناصر في لوحاتي. أما في المدينة، فقربي من البحر يمدني بجمالية اللون واختلافه بين لحظة وأخرى حسب الموج ومده وجزره، وانتظام الحركة والإيقاع. وفي الصحراء، نرى الكثبان الرملية وكيف يطير الرمل في الهواء وهذا المشهد يعطيني لوناً ذهبياً أصفر، لون الزعفران، وأيضاً رغوة الموج تعكس اللون الأبيض، وكذلك تفعل خضرة النخيل وامتداد النخلة، فهذه كلها تشكل جمالية بصرية مؤثرة.
إلهام البر والبحر
وعن أي مكان تعود ذاكرة الفنانة له وتستمد منه جمال فنها؟ تؤكد د. مكي أنه المكان الذي تستقي منه الإبداع، وهو بيت جدها الذي ولدت فيه، وتضيف أن قربه من خور دبي شكل لها مصدر إلهام وإبداع غير متناهٍ، ومن الصحراء تذكر أيضاً منطقة «العسبج»، وهو شجر كثيف متلاحم مع بعضه بعضاً.
وفي أسفارها ترى أن لكل بلد جمالية تختلف عن الأخرى، تقول: القاهرة أقمت فيها وشاهدت آثارها وما مر عليها من حضارات خالدة، ولابد لأي إنسان يعيش فيها أن يتأثر بثقافتها. وباريس لها جمالية الحداثة والعمق الكلاسيكي من خلال التمعن في جماليات القصور والمباني والمتاحف والأسواق القديمة. والمغرب العربي له جماله أيضاً، ودول الخليج والطابع المعماري لمبانيها التراثية والزخارف المزينة فيها لها ذكريات مؤثرة.
حميمية وخصوصية
ونبقى أيضاً في تأثير المكان وعوالمه مع الفنان مطر بن لاحج الذي يقول: بالنسبة لي فروح المكان أهم من أي شيء آخر، روح المكان سواء حين تستدعي الذاكرة شخصاً كان موجوداً فيه أو مناسبة عزيزة جرت في ذلك المكان، أو ما قد يمثله لك من دلالة شعورية خاصة كأن تجد نفسك مطمئناً في هذا الحيز المكاني بالذات. وبالنسبة لي شخصياً فهناك أماكن معينة إذا مررت عليها أو تواجدت فيها تستدعي في الذاكرة نوعاً من الحميمية وخصوصية الحضور، وتمدنا بالإلهام أو العطف كما ذاكرة المكان مع الأم أو مع الطفل، وذاكرة المكان مع الحنين في هذا المكان أيام الطفولة، وقت البراءة وبواكير الحياة.
ويضيف الفنان مطر أنه الآن انتقل إلى أماكن أكبر، حيث بدأ يتمثل أماكن أوسع في خياله، مؤكداً أن الخيال أصبح عنده هو الأرض الكبيرة، وعن ذلك يقول: في بعض الأوقات قد يريد الإنسان أن يختزل المواقف أو القوة والطاقة الإبداعية عنده في أماكن خاصة في خياله، والخيال أصبح عندي في الأرض الجديدة التي أسستها حيث أحن وأرجع إليها، وهو الخيال الذي أضع فيه مشاعر الوجدان ونوازع الإحساس. أما بالنسبة للعطاء الفني، فهذه المنطقة عندي تفيض بأماكن كثيرة في أحاسيسي، فإذا ناداني الوطن كانت في خيالي منطقة ذات دلالة عالية خاصة به، فالمكان عندي هو الخيال قبل أن يكون الواقع، ودائماً عندي أماكن جديدة، لأن الخيال لا تحده حدود.
أرض الخيال
وحول صورة المكان بين الواقع والخيال، يؤكد بن لاحج أن كل فنان عنده لغة خاصة، وفي خيال كل فنان قوة تظهر في التعبير عن المكان الذي يفكر فيه أو المكان الخاص بخياله، والفنان يستمتع بما في خياله وطريقة الرجوع إليه، وخيالي يعطيني هذه الحميمية والقوة ويمدني بطاقة كبيرة، وهنالك لغة الحضور بالخيال وبناء الأرض الخاصة بكل فنان. وعن خصوصية وألفة بعض الأمكنة يقول، مثلاً، عن المكان المعتم: إنه يجعلني أبحث عن منطقة النور، وإذا وصلت لمنطقة النور، لا أدع العتمة تسحبني. وإذا كان الخيال في مجمله معتماً لكن في نهايته نور، والنور يجعل عندي حافزاً دائماً للبحث والتطوير والانتقال من مرحلة إلى أخرى، وعندي شغف بذلك. وهذا المكان الخاص لي أنا في الخيال ينزلني إلى أرض الأم، وهي المنطقة التي يحبها الإنسان كثيراً بكل ما لديه من عاطفة، مؤكداً أن العاطفة مربوطة بالأمومة ودائماً الإنسان يحن لحضن الأم.
ويعود الفنان بن لاحج فيؤكد مجدداً أن عتمة الخيال في نهايتها نقطة نور ملهمة للإبداع، والمكان المحبب له مع إطلالة العام الجديد هو انتقال من مرحلة ذهنية إلى مرحلة أخرى لبناء شيء أكبر. يقول: في العام الجديد أعاتب نفسي دائماً على أشياء كثيرة كنت أفكر فيها ولم أعد قادراً على تنفيذها، وأنا شغوف دائماً بالأشياء التي أريد أن أعملها.