إيهاب الملاح

لم يكن جابر عصفور (1944-2021) الذي رحل عن عالمنا فجر يوم الجمعة الماضي، بالذي يمر خبر رحيله دون أن تهتز الأوساط الثقافية والمعرفية في مصر والعالم العربي لهذا الفقد الكبير، وقد لاحظ ذلك كل من تابع أصداءَ هذا الرحيل في كل مكان، والكتابات التي نعَته من مثقفين وكُتّاب ونقّاد، من مختلف التيارات والاتجاهات، والتخصصات والجنسيات، أبرزت جميعاً عظم الأثر الذي تركه، وجسامة الأدوار التي مارسها وجسارة المعارك التي خاضها، وسيظل من بينها خاصة الدور الأكثر أصالة ونقاء وبقاءً، دوره العظيم والكبير كأستاذٍ جامعي مرموق، وناقدٍ أصيل يوضع اسمه دائماً في قائمة الأشهر والأبرز والأهم مصرياً وعربياً، خلال فترة نصف القرن الماضية.

- 1 -
وسأحاول الاقتصار هنا من بين وجوه جابر عصفور الفاعلة والعديدة والمتنوعة، ونماذجه الثقافية والمعرفية والقيمية التي جسدها، على نموذج «الأستاذية»، ونموذج «الناقد»، هذان النموذجان اللذان قدَّمهما جابر عصفور، وجسَّدهما أنصع تجسيد وأرفعه طوال حياته، ويعلم عنه كل من اقترب منه أو تحدث معه أنه قد ظلَّ يكرر حتى آخر أيامه عبارته «أنا خوجة.. أنا خوجة» في إشارة إلى اشتغاله في مجال التعليم، وأنه يعتز بهذا اللقب بدلالاته الإنسانية والمهنية الشريفة طوال حياته، وإن كان قد أبدى بعض الندم والحسرة على ما فاته من ممارسة هذا الدور الشريف في السنوات التي انتزعته منه خلالها مناصبُه الرفيعة التي تولاها ومسؤولياته الرسمية التي استهلها برئاسته لتحرير مجلة «فصول» عام 1991 وحتى اعتزاله العمل الرسمي بعد انتهاء عمله وزيراً للثقافة.

- 2 -
أما نموذج «الأستاذية»، فقد كان جابر عصفور يعتبر نفسه ابناً باراً ومخلصاً لأستاذته العلمية والروحية والإنسانية سهير القلماوي التي كانت بدورها التلميذة النابهة والنابغة لأستاذها العميد الدكتور طه حسين. ولطالما كان جابر عصفور يفتخر بانتسابه إلى هذه الدوحة العلمية والأكاديمية رفيعة المستوى ورفيعة المقام ورفيعة التاريخ. وكان حلمه متواصلاً مع حلم أساتذته بالجامعة، ومنها وإليها، ولم يكن يرى انفصالاً بين دور الأستاذ الجامعي (أو الأكاديمي كما يحلو للبعض أن يستخدم هذه العبارة الآن) داخل قاعات الدرس وأروقة الجامعة، وبين أدواره الثقافية والمجتمعية والتنويرية خارجها، فلا تقتصر جهوده على التدريس والانكباب على البحث والتأليف من دون انخراط حقيقي في قضايا الوطن والأمة، وهمومها الثقافية والاجتماعية والنهضوية.. إلخ.
كان جابر عصفور نموذجاً ممتازاً للتلميذ الذي وعى الدرس، وحقق أدواره على أكمل وجه داخل الجامعة أستاذاً ومحاضراً و«خوجة»، وحققها مثقفاً مهموماً بقضايا ناسه وشعبه وأمته التي ينتمي إليها. وفي آخر حواراته التي نشرت هنا على صفحات «الاتحاد» قال لي عصفور بالحرف الواحد:
«لقد حاول طه حسين في الجامعة وبالجامعة أن يسهم في بناء مصر الحديثة، ولذلك كان لابد أن يصطدم بالمؤسسات والقوى التقليدية المحافظة. وكان جسوراً في صدامه، شجاعاً في التعبير عن آرائه وأفكاره التي هي الأساس الفكري للطليعة الثقافية العربية إلى اليوم. وأنا أستخدم الصفة العربية عامداً، لأن طه حسين لم يكن ملكاً للثقافة المصرية وحدها، وإنما كان، ولا يزال، ملكاً للثقافة العربية بأسرها، فتأثيره، مثل كتبه وتلامذته، تجاوز الحدود الضيقة لمصر إلى الحدود الواسعة للعالم العربي الذي تفاوت في درجة الحماسة لاستقبال أفكار طه حسين ومبادئه».
وأتصور أن ما قاله جابر عصفور عن أستاذه طه حسين ينطبق تماماً عليه هو أيضاً، حيث كان يرى أن الجامعة كما ارتبطت في تاريخها العالمي بتجاوز سطوة التعاليم المدرسية والانصياع للقواعد الكلاسية الصارمة، برغم كل ما قيل عنها من أنها مؤسسات محافظة بحكم حرصها على تقاليدها، فقد ارتبطت الجامعة في الوطن العربي خاصة بالاستنارة والحداثة والتحديث، فبدأت «فكرة» في أذهان الطليعة التي عملت على الانتقال بالمجتمع من التخلف إلى التقدم، ومن الضرورة إلى الحرية، ومن حقب الإظلام إلى عهد الاستنارة، وعندما تجسدت هذه الجامعة واقعاً على أيدي هذه الطليعة تحولت إلى وسيلة من وسائل مواجهة كل ما يعوق أحلام التقدم والحرية والاستنارة.
لقد كان جابر عصفور، بالنسبة لي ولغيري ممن تتلمذوا على يديه نقدياً ومعرفياً، من الأساتذة الذين، كانوا يمخضون العقلَ مخضاً، ففيه عنفوان وفيه قوة وفيه توهج (وهذا التعبير قرأته لديه، وهو من عباراته الأثيرة التي لم يكف عن استخدامها في أدبياته النقدية والدراسية، إنه تعبيره هو كما كان يكتب عن أساتذته الأجلاء، ومنهم المرحوم الدكتور شكري عياد، وأستاذه أمين الخولي).. كان، رحمه الله، من نوعية الأساتذة التي لا تقبل ولا ترضى لا بالتلقين، ولا الحفظ، ولا الاجترار، أو مجرد استعراض المعلومات.. بل إنه، على النقيض من ذلك كله، محرض ومشجع وداعم للفهم والابتكار والإبداع واكتساب القدرة على التعبير الذاتي وحضور الشخصية.. وأشهد أنه علمنا ذلك بكل إخلاص واقتدار.

- 3 -
وأما نموذج «الناقد»، فقد كان جابر عصفور ناقداً جهير الصوت، موسوعيّاً، مذهلاً في قدراته التنظيرية والتطبيقية على السواء. بدأ ناقداً للشعر ودارساً للتراث البلاغي والنقدي، وقارئاً ومؤصلاً لنظريات النقد الحديثة ومتحمساً لها ومدافعاً عنها، ثم انتقل إلى نقد الرواية والقصة والأنواع الأدبية الحديثة عموماً، ثم إلى دراسة نقد النقد كنشاط معرفي تتجلى فيه أقصى تجليات البينية مؤسساً لمدرسة حقيقية في هذا المضمار الصعب.
تلقى جابر عصفور تدريبه المعرفي الأساسي في النقد الأدبي على أن يكون ناقدَ شعرٍ بالدرجة الأولى، فكانت أطروحتاه للماجستير، ثم الدكتوراه عن «الصورة الشعرية»، بوصفها الخاصية النوعية الأولى الدالة على وجود القصيدة من ناحية، والفارق الحاسم بين الشعر والنظم التعليمي من ناحية ثانية. وما إن انتهى من أطروحة الدكتوراه حتى وجد «نظرية الشعر» قديماً وحديثاً تجذبه إلى «النظرية الأدبية» بوجه عام، وكانت النتيجة، كما يقول: «أنني اتسعتُ بدائرة اهتمامي من النقد التطبيقي للشعر إلى التنظير له وللأدب بعامة».
ومن هنا جاء تركيز جابر عصفور على الخصائص النوعية للأدب، وذلك من الدائرة التي تتسع لسؤالي الماهية والكيفية في مجال البحث عن ماهية الأدب ووظيفته وأدواته، وقد قاده ذلك إلى النظرية النقدية ودروبها، وهو المجال الذي «تجد نفسك غارقاً فيه بمجرد أن تسأل عن ماهية النقد ووظائفه وأدواته»، بعبارته.
وكانت هذه الأسئلة هي التي ستقوده في النهاية إلى مجال «النقد الشارح» أو «نقد النقد»، الذي سيصير جابر عصفور أهم وأبرز أعلامه ومنتجي خطابه، في النقد العربي المعاصر كله، حيث ستتجلى أسئلة «المنهجية» بوصفها حجر الزاوية الذي تنطلق منه الدراسات الأدبية، وتعود إليه، وذلك على نحو يمايز بين نقد ونقد أو درس أدبي ودرس أدبي مغاير في التميز والأصالة والعمق.

- 4 -
وعلى مدى ما يقرب من خمسين سنة، مارس عصفور النقد بكل أشكاله وأنواعه، وأخرج قرابة الثلاثين كتاباً تغطي كل مناحي النقد الأدبي القديم والحديث، النظري والتطبيقي، ونقد النقد، تأليفاً وترجمة، وبعد كتابيه المبكرين عن «الصورة الفنية في التراث النقدي والبلاغي عند العرب»، و«مفهوم الشعر دراسة في التراث النقدي»، تأتي كتبه الأصيلة:
«المرايا المتجاورة دراسة في نقد طه حسين»، و«قراءة التراث النقدي»، و«النظرية الأدبية المعاصرة» (ترجمة) و«نظريات معاصرة»، ثم كتبه التي ضمت نقده التطبيقي الغزير في الشعر والرواية والقصة، ومنها كتابان كاملان عن «أمل دنقل شاعر قصيدة الرفض»، و«صلاح عبد الصبور ذكرى حكيم محزون»، و«رؤى العالم.. شعر الحداثة في العالم العربي»، و«في محبة الشعر» و«عوالم شعرية معاصرة»... و«في القص والرواية» و«زمن الرواية»، و«القص في هذا الزمان»، و«زمن القص شعر.. الدنيا الحديثة»، وكذلك «متعة القص.. مراجعات وقراءات»، وغيرها.
وقد مثَّل كل كتاب أصدره جابر عصفور حلقة رئيسية من سلسلةِ مشروع ممتد توقف بوفاته رحمه الله، وقد اشتغل عليه لسنواتٍ طويلة، وظل يطوره في جوانبه المتنوعة حتى أيامه الأخيرة، مُلِحّاً على الأبعاد التي تكشف عن همّ مؤرِّق على مستويات التنظير التي لا تنفصل عن المستويات الموازية للتطبيق، وهو همّ «التأصيل» الذي يبدأ من النقطة التي انتهى إليها الناقد محمد مندور، عندما قال إن «الفهم تملّك للمفهوم»، ويمضي بعدها إلى الدور التنويري الذي لا ينفصل عن موقف عقلي لا يعرف المطلقات في مجاله النوعي، ولا يكف عن وضع كل شيء موضع المساءلة، بحثاً عن أفق أكثر وعداً، وكلام نقدي أكثر فاعلية، وفعل قراءة أكثر جذرية.

- 5 -
سيظل الدكتور جابر عصفور واحداً من أكبر وأهم النقاد والمثقفين في عالمنا العربي كله، وقد أنجز ما يشهد بوافر علمه ومعرفته وثقافته، وإنجازه المعرفي والنقدي بلا جدال من أكبر الإنجازات في ثقافتنا المعاصرة.. ولن يكفي مقال واحد أبداً للحديثِ والإفاضةِ عن «أستاذٍ جليل»، و«ناقدٍ قدير»، و«مثقفٍ حقيقي» مثله بكل ما تعنيه الكلمة.