د. عز الدين عناية

مثّلَ الدين ركناً أساسيّاً في كتابات رواد علم الاجتماع، مع ابن خلدون وأوغست كونت وإميل دوركهايم وجورج سيمل وماكس فيبر، في مسعى لمتابعة الظواهر الدينية ودراسة آثارها، وذلك تقديراً لما يمكن أن يلعبه الدين من دور محوري في التغيير الاجتماعي. وعلى ذلك الأساس كان الانشغال بالدين بوصفه آلية لبناء التماسك الاجتماعي. وتبعاً لذلك الدور طُرحت أسئلة بنيوية في علم الاجتماع الديني حول مدى مساهمة الدين في التغيير الإيجابي، وضمن أي شروط يضطلع بدور مؤثّر في المجتمع.
تتطلّب مسألةُ الدين كحافز على التعايش السعيد معالجةً ضمن إطار عامّ. فقد ارتبط ملمح الدين في العقود الأخيرة بحالات الثوران الاجتماعي والتوتر السياسي، وبرزَ تحريضُه على التحولات العنيفة وغير العنيفة في العديد من المجتمعات. وقد كان هذا التلازم بين الدين والاضطراب السمةَ الغالبةَ على التقاليد الدينية والفلسفات الروحية مشرقاً ومغرباً. وكان للعديد من المجتمعات نصيبها من واقع الدين الحانق: ففي الولايات المتحدة بدا الدين عنوانَ الرفضِ للإجهاض والتطورية والموقف المناوئ للقضايا الجنسية والأسرية، وهو ما تلخّص في مطالب «الأغلبية المحافظة» (Moral Majority)، وفي أميركا اللاتينية، وإلى «لاهوت التحرير»، سرّاً وعلناً، التحولات الاجتماعية ذات الطابع الثوري ودعم الأنظمة الاشتراكية، وفي منطقة الشرق الأوسط والبلاد العربية اتّخذَ الإسلام السياسي ملمَحاً احتجاجياً غاضباً إلى حدّ طمس صورة الإسلام السمحة، ولم يدّخر هذا الوضع أوروبا التي شهدت موجات شدّ وجذب في تحوّل بولندا من دولة تعيش في ظلّ المعسكر الاشتراكي إلى دولة موالية للغرب، وما كان للكنيسة الكاثوليكية من دور في تلك الأحداث العاتية. هذا، ناهيك عما شكّله الدين من عنصر تأجيج للحروب واقتراف للمجازر في يوغسلافيا سابقاً وتأجيج الصراع في المملكة المتحدة. في ضوء هذه التجارب، وجب أن تقوم الرسالات الدينية بجرد حساب، حول ما جنته من هذه المغامرات وما الذي خسرته؟
وفي تلك الأجواء القلقة التي أَلمّت بالدين، لطالما تردّد على مسامعنا قول صراع الأديان وحروب الأديان، وهو في الواقع قول غريب عن جوهر الأديان وعن قناعات المتديّنين الودعاء، فكيف لرسائل الخلاص ولموائل قِيم الخير أن تتحوّل إلى رصيد للصراع والعنف؟ ولذا وجب التثبّت في حقيقة الصراعات التي جُرّت إليها الأديان وتُجرّ، ثم تغدو وقوداً لها، كأنّ الأمر نابع منها.
فقد طمس وجه الدين الحانق (التطرف)، وبشكل لافت، رصدَ أثرِ الدين الإيجابي في تحفيز الناس على العيش الهنيء واحترام التعدّد، وتمتين عرى التماسك والتعاون بين الجميع، وملء حياة البشر بالمعنى والقيمة والطاقة الإيجابية، بما يُفضي إليه ذلك من أثرٍ إيجابي في حياة الفرد وسير المجتمع. فلم يغب فِعلُ الدين الإيجابي حتى أثناء احتدام الصراع والخصام، في الغوث والنجدة والفصل بين المتصارعين وفك أسر المأسورين والمختطَفين وما شابه ذلك، ولكن الصورة التي رُوِّجت على مدى عقود كانت تُمعِن في الإلحاح على الوجه العنيف للدين وتطمس وجهه السمح.

منظوران خاطئان
لا شك أنّ مجمل الأديان عانت من منظورين خاطئين، أحدهما نابع من الداخل، أي من دائرة المؤمنين (المتشددين)، والآخر مسقط من الخارج، صادر من الخصوم والمنافسين: ويتمّثل الأول في تصوّر المعتقد الذاتي غير قابل للآخر، أيا كان إيمانه، بفعل الانحراف العقدي المقدَّر لديه. وهي مصادَرة شائعة بين شرائح متعددة في سائر الأديان، وليس من اليسير محاصرتها وردّها، فهي منتَجة في الدين داخلياً بفعل تراكمات تاريخية، وتستند إلى ضيق فقهي وانغلاق لاهوتي، ما عاد يلائم عالمنا. والمنظور الثاني، الذي عانت منه الأديان، وهو قائم على نظرة مسقَطة من الخارج، تنزع عن المغاير القدرة على بناء انفتاح يستوعب المختلِف. وكلا المنظورين، الداخلي والخارجي، يتّحدان في نفي القدرة عن الدين للتحول إلى إطار حاضن، ومن ثَمّ تنفي كلتا النظرتين عن الدين القدرة على بناء عيش مشترك.
يتعارض هذا الحكم بوجهيه مع التجارب التاريخية للأديان، وهو يتطلّب روية عند المعالجة. فما من شك أن تجارب الأديان مع الآخَر الديني مسألة مختلفة من دين إلى آخر. فلا يمكن مثلاً مقارنة التجربة الإسلامية بالتجربة المسيحية الغربية، فإن تكن التجربة الأولى ثرية ومتنوعة ومتأصّلة، فإن التجربة الثانية لم تشهد ثراءً، وبقي يعوزها لاهوت أديان، ولم يقع التطرق إلى قضاياه سوى في العقود الأخيرة.
يتطلّب الأمر نقض هاتين المصادرتين، أو لنقل بيان نسبة الصحة والخطأ فيهما لغرض بناء فلسفة احتضان للآخر، بحسب ما شرع في خوضه «لاهوت الأديان» في الأوساط اللاهوتية المسيحية حديثاً، بحثاً عن رؤية خلاص للآخر، أو كذلك تناول المسألة ضمن منظور إسلامي وتحت مسمى عام، ألا وهو «إيلاف الأديان»، وهو ما يجد أصوله في «حلف الفضول»، وفي «صحيفة المدينة»، وفي مقولة «الاختلاف المراد من الله»، وفي التجارب المنيرة لمؤسسة أهل الذمة، وفي «التراث الصوفي»، لكن ذلك التراث الثري والمتنوع في الإسلام لا ننكر أنه بقي مشتَّتاً ولم يُطوَّر إلى بناء رؤية إسلامية واضحة المعالم.

شراكة الأديان 
ما من شك بعدما أسهمت عقود من الحوار مساهمة فعالة في تقريب الأديان بعضها من بعض وفي تعريف المؤمنين بعضهم ببعض، يدخل المؤمنون عصر شراكة الأديان، وهي مرحلة متطورة من تعايش المؤمنين. وليست شراكة الأديان نزوعاً إلى الذوبان في مشترك إيماني واحد أو تقاسماً لمعتقدات جامعة أو اندماجاً في شعائر موحّدة، وإنما هي قبول بقِيم معيشية يتقاسمها المؤمنون وغيرهم بغرض بلوغ نوع من المواطنة الجامعة. وعلى ذلك الأساس تبدو الأديان مدعوة إلى بناء تحالف قِيَمي تتواضع بمقتضاه على مشترَكات جوهرية على صلة بالعيش الكريم.
ويمكن الحديث عن بوادر هندسة إيمانية تستجيب إلى هذا المطلب. فقد بدا قادة الأديان اليوم على وعي بضرورة هذا التمشي، نقصد شراكة الأديان، والإعراب عن حاجة المؤمنين والعالم إليه. فقد عبّر البابا فرنسيس سواء في الإرشاد الرسوليّ الأوّل «فرح الإنجيل» (Evangelii Gaudium) -2013- أو في الرسالة البابوية العامة «جميعنا إخوة» (Fratelli tutti) -2020- عن هذا التحفّز لملاقاة الآخر، على نحو ما فعله القديس فرنسيس الأسيزي بالتوجه إلى السّراسِنة (المسلمون) وحرصه على مقابلة السلطان الملك الكامل في دمياط.
من جهة أخرى، أبانت الإعلانات الصادرة عن الأزهر الشريف (إعلان الأزهر للمواطنَة والعيش المشترك، القاهرة- 2017) و(إعلان مراكش لحقوق الأقليات الدينية، 2016) و(ميثاق حلف الفضول العالمي، 2019) في أبوظبي عن هذا المطلب الملحّ في عالم اليوم. فمنذ تأسيس منتدى السلم (2014) حرص هذا التجمع على ترسيخ هذا البعد الكوني والتشاركي، لاسيما مع صدور وثيقة الأخوة الإنسانية في دورتها الأولى «القيم الإنسانية والعيش المشترك»، مروراً بالدورتين الخامسة والسادسة اللتين تعلقتا ببناء وترسيخ ما أُطلق عليه حينها «حلف الفضول: فرصة للسلم العالمي» و«الميثاق العالمي لحلف الفضول الجديد».
فما من شك أنّ عالمنا يعوزه تطوير شكل من الترابط بين المؤمنين، يعلو فوق صيغ الترابط المألوفة، الدينية والوطنية والعرقية، أي صيغة تماثل رابطة المواطنَة تكون ذات بعد كوني ومنفتحة على الجميع. وحتى لا يبقى هذا الترابط مرتهناً إلى العواطف ومجرَّداً من أبعاده العملية، وجب تطوير منظومة قِيَمية تدعمها مبادئ تأصيلية تكون الأساس لهذا التوجّه الجديد. فإن تكن المواطَنة في مدلولها القانوني تقوم داخل إقليم ترابي محدّد وتكتسب معنى جراء ما تلبّيه من احتياجات ضرورية، فإنّ المواطنة الشاملة أو التشاركية المنشودة، المستمدّة من شراكة الأديان، هي بما يتجاوز الإقليم الترابي، وتستند فيما تستند إليه إلى محدّدات قِيَمية جامعة ومبادئ مشتركة.
وإن يكن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان يستمدّ حرمته وأصالته من جوهرانية ما يدعو إليه، فإنّ الأديان والفلسفات الروحية اليوم هي في حاجة إلى التواضع حول مبادئ عامة تماثل مبادئ ذلك الإعلان، تستمدّ حرمتها وأصالتها من جوهرانية ما تدعو إليه من خيرية وسِلم وكرامة للبشر كافة. ذلك أنّ الرصيد الروحي العالمي، وبما يتضمّنه من معان راقية في حاجة ملحة إلى التفعيل بغرض تطوير مشترَك جامع. فليس الحس التشاركي جديداً على الأديان وعلى الفلسفات الروحية، وروح المسؤولية والتنافس على فعل الخير ونجدة الملهوف وإعانة المحتاج، هي قيم متأصّلة في سائر الأديان، وهي من الرصيد الخُلقي القار للأديان جميعاً. ولعل المطلب الملحّ في عالمنا اليوم، وهو الخروج بتلك القيم من حيز أتباع الدين الواحد إلى حيز الناس جميعاً دون تفريق بينهم.
ولعلنا لا نأتي بجديد إذا قلنا إن تعاليم الأديان تحضّ على المعروف والخير والسلوك القويم، فهي «مما هو معلوم من الدين بالضرورة»، كما تقول القاعدة الأصولية، ولكن اللافت اليوم التطور الحاصل في تحفّز الأديان وسعيها الجاد لتفعيل تلك التعاليم لأجل عيش تشاركي وتقاسم آثاره على مستوى عام بين مختلف التقاليد الدينية. لعلّ الواقع العولمي قد فعل فعله في الضمير الديني، من خلال ترقية الحس بالمسؤولية الجماعية والتنبيه للمخاطر التي تواجه الجميع في ظل التشتت وعدم الاكتراث. وقد بات المؤمنون يرون واقع التشارك ماثلاً، وقد تحولت مدن العالم الكبرى إلى فضاء مفتوح للأديان والمعتقدات بأشكال متساوية، أو شبه متساوية. وهو ما بات يملي على أي نشاط ديني: غوثي أو تبشيري أو خطابي مراعاة التنوع الحاصل في المجتمعات، ولذلك نحن أمام وعي جديد يتمثل في «فقه التشارك» أو «لاهوت التشارك» وجب على الأديان أن تُعِدّ العدّة إليه.
فالأديان أمام اختبار بناء المؤمن العالمي، أو بعبارة أوضح المؤمن المنفتح لا المؤمن المنغلق، القادر على استيعاب التنوع والمغايَرة بصدر رحب وثقة إيمانية. ولا يعني الأمر أن الإنسان يتخلى عن رصيده الإيماني، ولكن أن يفسح المجال ويُيَسّر الاحتضان لذلك الآخر الوافد والمهاجر والشريك في المواطَنة والعيش. في التاريخ القديم كان الملك الآشوري أسرحدون يفخر بجيشه الزاحف وهو يقول: «أمامه مدينة وخلفه خراب (تِلُّ)»، وقادة الأديان وأتباعها اليوم أمامهم ركام من الفُرْقة وعليهم أن يبنوا وحدة.

مداخلة ألقيت في منتدى أبوظبي للسلم بتاريخ 5-7 ديسمبر 2021