إبراهيم الملا
يا ليت يا بنت الجمل تدريني
بفضي بسدّ ولا بْغيه يبينِ
والسدّ ما يظهر بين إثنينِ
أطرى عليّه والعرب مسلينِ
وان هبّ ذعذاع الينوب لدينِ
تصبح ثيابه بالندى دسمينِ
وكنّه مردّ وخاطره متليني
بعطيه مطلوب الرضا من حيني»
استحقّ الشاعر الكبير محمد بن حم العامري لقب «أمير التغاريد»، حيث ارتبطت «التغرودة» باسمه ورسمه وعطائه وألمعيّته، وقد أخلص لها وبرع فيها وأبدع، حتى صارت لصيقة بتجربته الثرية، وبحياته الحافلة بالمحطات الكبرى والانعطافات المؤثرة في تاريخ المكان، وفي سرديّاته الشفهية المتّصلة بالذاكرة الجمعية، وبما حوته هذه الذاكرة من ثراءٍ سمعي وبصري مقترن بمشهدية القوافل والمطايا القديمة، وهي تعبر الصحاري وتقطع البوادي، مغمورة بإيقاعات «التغرودة» المتناغمة مع حركة الإبل، ومع مشيها الموزون، وخطواتها المتتابعة بسرعة وانتظام وانسياب، بينما ينتشي الشاعر لحظتها بسحر الليل، وبميلان أجساد الإبل، المتهادية مثل سفن صحراوية مشعّة، تحت زخّات نور يسرّبها القمر من عليائه وبهائه.
كان شاعرنا محمد بن حم وما زال، أمثولة للتغرودة الأصيلة في جذرها، والنقيّة من شوائب الرطانة والتداخل بين اللهجات، وهناك العشرات من التغاريد المؤكدة على نهجه التعبيري الصافي وأسلوبه البنائي الوافي لهكذا فن شعري منتم بأواصر روحية ونفسية وثيقة مع بيئة البادية ومع ظروفها وطقوسها وعراقتها.
في «التغرودة» أعلاه، تتكشّف لنا العلاقة الآسرة والحميمية بين البدوي وراحلته، كما تتوضح شفافية الخطاب بين كائنين متغايرين في الخِلْقة، ولكن ما يجمعهما هو أكثر بكثير من هذا التمايز الظاهري، ومن هذا الاختلاف المرئي، فالنفاذية التي تحقّقها العشرة الطويلة تتجاوز بتأثيرها العاطفي كل الحواجز المفاهيمية القائمة بين ضدّين، ولذلك نرى الشاعر ابن حم في «التغرودة» أعلاه، وهو يحاور ناقته بأريحية تامّة، فلا شكوك لديه مطلقاً أنها تصغي إليه وتتفهّم لغته وتتجاوب معه، حيث يقول: «يا ليت يا (بنت الجمل) تدريني/ بفضي بسدّ ولا بْغيه يبينِ»، فهو عازم على كشف أسراره العاطفية للناقة، رغم أن الإفضاء بهذا السرّ سيخالف القاعدة الذهبية للكتمان، وهو عدم إظهار السرّ لشخص ثالث، فإن حدث ذلك، سيفقد المخفيّ غطاءه، وستزول الحُجُب عن الأمر المتواري والدفين، لذلك يستطرد محمد بن حم، قائلاً: «والسدّ ما يظهر إمبين إثنينِ»، ولكن لثقة الشاعر بناقته، ولحاجته إلى تحرير مغاليق فؤاده، وتسريب ما يعتمل في قلبه من لواعج وهموم، صار لزاماً عليه أن يزيح عن نفسه عبء الصمت وثقل السكوت، فالمخاوف المتراكمة في الصدر، لا يمكن تحمّلها أو الصمود أمامها، والتعبير عنها الآن بات مطلباً ضرورياً، خصوصاً مع الهجمة القوية للذكرى «أطرى عليّه والعرب مسلين» مع وحشة الذات وعزلتها، ووسط أناسٍ لاهين بشؤونهم، ومن هنا أصبحت الناقة هي الأذن الوحيدة الصاغية، وهي البديل عن كل هؤلاء الخلق لتمرير الأذى الداخلي، والتنفيس عن الآلام الخافية، فمع انهمار الذكرى، فإن هبوب نسائم الجنوب الباردة، بات يخلق الآن مبرّراً مضاعفاً للإفصاح عن بواطن الهوى، والإبانة عن خبايا العشق: «وان هبّ ذعذاع الينوب لدينِ/ تصبح ثيابه بالندى دسمينِ»، مستعيداً مع هبوب هذه الرياح الرطبة والمنعشة، صورة المحبوب المبتلّة ملابسه بالرذاذ السماويّ، والملتصقة ثيابه بتفاصيل جسده الرشيق والشهيّ، ليختم الشاعر محمد بن حم «تغرودته» بالتأكيد على شوقه الجارف للمحبوب، وأنه ينتظر إشارة منه فقط، كي يلبّي نداء قلبه، وأن هذا الوعد بات رهناً للاشتياق المتبادل، كي لا يصبح للجفاء مكان بعد ذلك، ولا يصبح البعد حدّاً قاطعاً بين روحين اشتبكا ببعضهما رغم طول المسافة وقهر الزمان وقسوة الحال، فيقول: «وكنّه مردّ وخاطره متليني/ بعطيه مطلوب الرضا من حيني».
تغاريده لطيفة الوقع وجميلة الإيقاع ومتنوعة الأغراض.. محمد بن حم العامري.. أمير التغاريد #بصمات#الاتحاد_الأسبوعي #نتصدر_المشهد pic.twitter.com/wlW5bXujB6
— صحيفة الاتحاد (@aletihadae) November 26, 2021
ترعرع في الختم والعين
ولد الشاعر الوجيه محمد بن حم بن حبراس الحيوي العامري عام 1850م في منطقة «العقير» الواقعة بين مدينة العين ومنطقة «الوجن»، وعاش وترعرع في أراضي منطقة الختم والعين، ويشير الباحث الدكتور راشد أحمد المزروعي، إلى أن القبيلة التي ينتمي لها شاعرنا، وهي قبيلة العوامر كانت تتنقل من مكان لآخر طلباً للكلأ والرعي، فكان أبناؤها يجولون أراضي الإمارات وسلطنة عمان، وأطراف المملكة العربية السعودية القريبة من حدود الإمارات، ويحلّون أينما وُجِدَ الكلأ والعشب، وفي هذا السياق يقول الشاعر محمد بن حمّ في إحدى تغاريده المشهورة:
«كلنا (هناويّه) تخبّ ركابنا
من راس خيمتنا إلى معرابنا»
ويشرح المزروعي ما يعنيه مطلع التغرودة، قائلاً: «معنى ذلك أن للقبيلة وجوداً في منطقة شرق الجزيرة العربية تحت حكم «آل بو فلاح» وأنهم يجوبون الإمارات كاملة من حدود رأس الخيمة، وحتى مقرّ العوامر في الجنوب».
القيادة والحنكة
يشير الباحث الدكتور راشد أحمد المزروعي، إلى أن والد شاعرنا وهو الشيخ حم بن حبراس العامري كان قد عاصر الشيخ خليفة بن شخبوط الفلاحي، حاكم أبوظبي الأسبق (1838 - 1855)، وكان مقرباً منه، ويعد الشيخ خليفة من كبار شعراء الإمارات الذين برعوا في شعر «الونة»، وقد خلف شاعرنا محمد بن حم، والده في مجلس الحاكم في الإمارة، سواء في أبوظبي أو العين، ثم أصبح بعد ذلك من المقرّبين للشيخ زايد بن خليفة بن شخبوط «زايد الأول» حاكم إمارة أبوظبي بين أعوام (1855 - 1905)، ومن كبار مستشاريه، وقد عيّنه الشيخ زايد بن خليفة عضواً في مجلس الحلّ والعقد، الذي كان يضمّ عدداً من شيوخ ووجهاء القبائل، وكان بمثابةِ المجلس البرلماني في ذلك الوقت - كما يشير المزروعي- الذي يوضح أن الشاعر محمد بن حم العامري عايش مرحلة طفولة الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان - طيب الله ثراه - ولمح فيه علامات القيادة والحنكة والزعامة، رغم أن «زايد» لم يتجاوز حينها الخامسة عشرة من عمره، وقد عبّر عن توقعاته وحدسه في تغرودة معروفة ومؤثرة، ما زال صداها يتردّد إلى اليوم، يقول فيها:
(هزري على «زايد» يشابه يدّه
رغيب لي سدّ العرب ما سدّه
زايد عليهم بالكرم والمَدِّه
يِسْلَم زبينه والطليب يردّه
واللي معاصي يبشرّه بالشدّه)
التغاريد تشبه النهمات في البحر
يصف الدكتور أحمد راشد المزروعي الشاعر محمد بن حم العامري بأنه أشهر من نار على علم في فضاء فن مميز من فنون الشعر الشعبي، وهو فن «التغرودة»، وقد طغت شهرته على جميع شعراء التغرودة بالإمارات، وأصبح أميرهم في هذا المجال، مضيفاً أنه اكتسب هذه السمعة والشهرة رغم معاصرته لفطاحل هذا الفن أمثال: الشاعر سعيد بن عتيج الهاملي، وسعيد بن وريقه العامري، ومبارك بن خمس العامري، وبن قنش الكتبي، والشاعر الشيخ بطي بن سهيل آل مكتوم، والشاعر بن حلوة الكتبي، وغيرهم، فرغم شهرتهم جميعاً وإبداعهم في هذا المجال، إلّا أن ابن حم أخذ نصيب الأسد بينهم، من حيث ترديد تغاريده، وحفظها في صدور العامة قبل الرواة والشعراء، دعك عن كونها سلسلة وخفيفة، وجميلة الإيقاع مع تنوّع أغراضها - كما يشير بذلك المزروعي - الذي يؤكد براعة ابن حم في قول التغاريد مقارنة بالشعر العادي، حيث كان مقلّاً فيه، قائلاً: «لا غرو في ذلك، إذ يشتهر العوامر بالتغاريد، ويعدّون من أشهر من يجيد هذا الفن بحكم حياتهم البدوية وارتباطهم بالإبل ارتباطاً شديداً».
مضيفاً أن للتغرودة طريقة معيّنة في القول والإلقاء، إذ إنها تكون بقافية موحّدة، وكل بيت منها يتكون من شطر واحد فقط، ووزنها (مستفعلن مستفعلن مستفعلن)، ولا تزيد أبياتها - إلاّ في بعض الحالات - على خمسة عشر بيتاً مفرداً تقريباً، وهي تناقش موضوعاً واحداً، أما لحن التغرودة، فهو لحن قياسي ثابت، ولا مجال لتغييره، أو تحديثه، مثله مثل فن العازي، كما أن التغرودة لزيمة ركوب الناقة، فقد كان البدو ينشدون ويتغنّون بهذه التغاريد حينما يعتلون مطاياهم، خاصة في الليالي الظلماء، وهم سراة عليها، فيطربون نوقهم وإبلهم بلحن هذه التغاريد الجميلة، فتزيد من سرعة هرولتها وسيرها، ويرى المزروعي أن التغاريد تشبه النهمات في البحر، والحدوات في الواحات، مع فارق الوزن، إلّا أنها أكثر ما تشبه الأراجيز القديمة، وتعدّ التغرودة فنّاً بدويّاً عريقاً مرتبطاً بالإبل في الماضي، وقد كان الموضوع الرئيس للتغرودة في الماضي هو الهجاء، الذي يشمل الذمّ والنقد والدفاع عن الرأي، ومع ذلك، فإن الكثير من الشعراء استخدموها في المدح، وخاصة مدح الشيوخ والأفراد، حيث إن مدح شخص ما يعني أنه متفرّد ومختلف عن غيره في المكانة العالية وفي الطباع المحمودة، أما الشيء الذي يميّز التغرودة - حسب المزروعي - فهو الردّ عليها من الطرف الآخر بقافية مختلفة إن أراد، على خلاف الشعر العادي الذي يلزم الشاعر المقابل أن يرد عليها بنفس القافية، إلّا ما ندر.