خيرة الشيباني

كان عام 2012 عاماً أسود في تاريخ الثقافة لتونس ما بعد الثورة، فبعد أشهر قليلة من انتخابات المجلس التأسيسي، التي أسفرت عن إسناد سدة الحكم لرئيس جاء محمولاً على اكتاف حركة «النهضة» بنحو سبعة آلاف صوت فقط، انفجرت أحداث العنف التي استهدفت العديد من المثقفين والكُتاب والفنانين ودور المسرح والمعارض الفنية ومواقع الآثار التاريخية، بل استهدفت حتى بعض قبور الشعراء أمثال الشاعر أبي القاسم الشابي ومحمد الصغيّر أولاد أحمد، كما طالت أيضاً زوايا الأولياء الصالحين. 
وتم الاعتداء أيضاً، على العديد من المسارح كذلك، منها المسرح البلدي، في الوقت الذي كان فيه المسرحيون وعشاق هذا الفن يحتفلون داخله باليوم العالمي للمسرح، وهو تقليد لم يغب الاحتفال به عن الساحة الثقافية منذ أن أقره الرئيس الأسبق الحبيب بورقيبة في أواسط الستينيات، إلى غير ذلك من أحداث العنف الموجه ضد المثقفين والفنانين التي تكررت في ذات العام وامتدت بعد ذلك.
ولم تكن هذه الأحداث التي توالت خلال العشر سنوات الماضية معزولة ولا منفصلة عن السياقات السياسية والأيديولوجية التي أفرزتها، فقد غذتها حملات التكفير والتجريم، واتهامات التغريب التي أطلقتها حركة «النهضة» وأنصارها من المتشددين ضد خصومها السياسيين، وضد المناهضين لمشروعها المجتمعي الظلامي الذي أرادت فرضه تحت شعار «نكبتنا في نخبتنا».
وخلال العشر سنوات الماضية كان الصراع السياسي الذي خاضته «النهضة» من أجل التمكن من الحكم، وتأبيد محاولة سيطرتها على السلطات الثلاث، صراعاً ثقافياً في جوهره، وهو صراع توسلت إليه بالعديد من الآليات والمناورات، منها تحويل وجهة مناقشة مشروع دستور 2014 الذي كان يهدف إلى رسم صورة دولة القانون الديمقراطية العادلة، التي يحلم بها كل التونسيين، إلى نقاش بيزنطي حول الهوية، وهو نقاش كان غريباً على الساحة التونسية آنذاك، ولم يكن من أولوياتها. 

الانتقام من الإرث التحديثي
ومنها كذلك زرع آلاف الجمعيات والمدارس الدينية المؤدلجة في نسيج المجتمع التونسي بهدف زعزعة أركانه القائمة على الاعتدال والوسطية وعلى العيش المشترك، وبغية استقطاب الشباب والاستثمار في هشاشتهم النفسية من أجل إرسالهم إلى بؤر التوتر ليكونوا ضحايا المشروع «الداعشي» الإرهابي.ومن هذه الآليات أيضاً محاولة الانتقام من الإرث التحديثي الفكري المستنير، ومن الإرث البورقيبي أساساً، ومحوه من الذاكرة بالتشكيك في مشروعه المجتمعي، واتهامه بالتغريب، مقابل محاولة إقامة «دولة الخلافة» كما رسمتها أدبيات «الإخوان» في قراءة سطحية وضيقة للشريعة.
ولعل من المضحك المبكي أن أولى المبادرات التي قامت بها وزارة الثقافة في عهد حكم «الترويكا»، في إطار تصفية المؤسسات الثقافية التي أرساها وزراء الثقافة في العهد البورقيبي وما بعده، اللجوء إلى حل اللجان الثقافية الوطنية والجهوية.

غياب استراتيجية
ولعل مما ميز أيضاً الحياة الثقافية بتونس خلال العشرية الماضية غياب أي استراتيجية ثقافية تلبي انتظارات المثقفين، كما تلبي حاجيات مختلف الفاعلين الثقافيين الذين تم التضييق على إنتاجهم بسبب تأويل حدود حرية التفكير والإبداع، وبسبب تقلص إمكانيات دعمهم بعد أن كان صندوق الدعم في تونس إحدى مفاخر مشروعها الثقافي، وخضوع وزارة الثقافة لأجندة الأحزاب الحاكمة وعلى رأسها حركة «النهضة» والتضييق على بعض الوزراء الذين حاولوا شق عصا الطاعة في وجهها، بكل الوسائل، بما فيها تأجيج النقابات ضدهم، وإقالتهم قبل تنفيذ البرامج الثقافية التي كانوا ياملون تحقيقها. وهو ما قاد إلى تصحر ثقافي بعد الزخم إلى كانت تعيشه تونس من خلال مهرجاناتها الوطنية والدولية، وملتقياتها الفكرية والثقافية، التي كانت قبلة المثقفين العرب والغربيين... من دون أن ننسى الهوة التي اتسعت بين السلطة السياسية والمثقفين بسبب تعارض الرؤى، وبسبب ما سماه بيير بورديو بـ«صراع المعاني».
لقد كان من الممكن ان تكون الثورة فرصة لإحداث تغييرات ثقافية إن على المستوى المؤسسي أو على مستوى الإنتاج والإبداع والنهوض بالمواطن التونسي إلا أن المشروع «الإخواني» أهدرها، كما أهدر فرصاً غيرها، ففي مناخ من التكفير والترهيب لا يمكن للحرية المزعومة إلا أن تأكل نفسها، وهكذا كان.
ولكن هل يعني هذا أن ««الإخوان» قد نجحوا في إفراغ الساحة الثقافية من طاقاتها وتدجين مبدعيها؟
إن الثقافة هي آخر من يموت في بلد ذي تاريخ من الفكر الحر المستنير، وفي مجتمع يحركه بيت شعر واحد نحو مسيرة التحرير والتنوير، فعلى هامش مشاريع «الإخوان» لتدجين المثقفين شقت ثقافة الممانعة مسارها، كما في كل العهود.