إبراهيم الملا

لم يحظَ الشاعر مجرن بن سيف الكتبي بالشهرة التي تواكب قيمة وقوة قصائده المتجذّرة في أرض الشعر الشعبي، والمتشرّبة لمعانيه وأغراضه وأساليبه، وكان لندرة التدوين في البيئة التي عاشها الكتبي بدايات القرن العشرين، دور مؤثر في اختفاء نتاجه الذي بدا غزيراً كما أقرّه المعاصرون له، ولكنهم تأسّفوا في ذات الوقت على غياب المدوّنين في محيطه الاجتماعي، رغم إلحاح الشاعر على توثيق قصائده قبل أن تُدفن تحت طيّات الإهمال والنسيان، وكان يقول للمقربين منه: «اكتبوا قصيدي قبل أن أموت ويدفن معي».

حيّ كوسٍ هبّ ذنّانِ                       بيّح بسد الخِفا كلّه
يا «حِسَن» بك عوق حيرانِ                 والغِبِي ثرّ من بَيفطنْ له
ردّ لي من نسل ظبيانِ                       لي تفارج شيفة الظلّه
فوقها منجر وهبّانِ                             والسّعن والظرف والدلّه
روّحت والقلب ولهانِ                        تسرع بخلٍّ جِدا خِلِّه

روح الصحراء
لقد كان لندرة الكَتَبَة والخطّاطين في زمن الفورة الإبداعية للشعراء الشعبيين القدامى، دور سلبي ومحبط بالنسبة للباحثين والمؤرخين، خصوصاً أن أغلب القصائد النبطية كانت مرتبطة بأحداث ومناسبات ومواقع جغرافية مهمة، كما أنها تتضمن مواقف محورية في السيرة الحياتية للشعراء، وتزخر بالعديد من القصص والاختبارات الحِسّيّة والنفسيّة، ولذلك فإن غيابها يؤدي لخلق فراغات كبيرة في التاريخ الشخصي للشاعر، كما أن غيابها يُطلق أسئلة يصعب العثور على إجابات لها، خصوصاً أنها أسئلة تتعلّق بمسارات التجربة الشعرية في بدايات تكوّنها ووصولاً لنضجها وتطوّرها، إضافة للغموض المترتّب على فقدان القصائد، وبالتالي انتفاء المعلومات الخاصة بالأزمنة والأمكنة التي عايشها وعاينها الشاعر، وكان لها تأثير بالغ في تكوين وعيه ولغته ومناخاته الشعرية، ويعد مجرن الكتبي من الأمثلة الساطعة في هذا السياق، فقصائده القليلة الباقية في ذاكرة الرواة تدلّ بشكل واضح على مدى الخسارات التي لحقت بإرثه الشعريّ، وكيف أن انفلاتها من قبضة التوثيق أنتج إشكالات ملحوظة في تتبّع سيرته الذاتية، أو الانكشاف على قصائده اللافتة وذات الوقع الخاص والمختلف، نظراً لما باحت به قصائده النادرة والمحفوظة من رؤية شعرية نافذة وموهبة متّقدة والتقاطات مدهشة لتفاصيل البيئة البدوية وما تحتويه من عادات ومفردات وأنماط فلكلورية نابعة من روح الصحراء ومن فضاءاتها المناخية وطقوسها القائمة على الترحال والمغامرة والبحث والتقصّي، وسط ظروف صعبة ومسالك لا تحتمل الغفلة أو التيه.
إن جلّ ما وصلنا من قصائد مجرن الكتبي ينحو باتجاه غرض أساسي وهو: الردود، أو المساجلات الشعرية، ولعل صمودها خلال هذا الزمن الطويل منذ رحيل الشاعر، يدلّ على إثارتها لحراك شعري مليء بعوامل الترقّب والجذب ولفت الانتباه، ذلك أن «المساجلات» تعد من أكثر الأغراض الشعرية ديناميكيّةً وقدرةً على البقاء والانتشار في الفضاء السردي والشفاهي للرواية الشعبية.
وتعدّ القصيدة الواردة أعلاه بعنوان: «حيّ كوسٍ» من القصائد الغزلية النادرة للشاعر مجرن الكتبي، والتي برزت وصمدت ضمن قصائد المساجلات المشهورة له، وفي بقائها إشارة لوقعها المُحبّب لدى الراوي ولميلها الواضح للإيقاع الغنائي القابل للحفظ والتداول، كما أن بنيتها الجمالية قائمة على الحيوية المشهدية المفعمة بالصور المعبّرة، والتحولات المشوّقة، والتنقلّات الرشيقة بين حالات وأمكنة متناوبة ومتراوحة فيما بينها، مثل: البعد والقرب، والهجر واللقاء، والتخيّل والمعاينة، حيث يقول الكتبي في مطلع القصيدة: «حيّ كوسٍ هبّ ذنّانِ/ بيّح بسدّ الخِفا كلّه» في إشارة بالغة الأهمية لتأثيرات الطقس والرياح على مزاج الشاعر، سلباً وإيجاباً، وانتشاءً وإحباطاً، فهو يمتدح هنا رياح الكوس المٌبشّرة والتي لعبت دوراً فاعلاً في تحريك مشاعره، وإيقاظ لواعجه، ما دفعه للبوح بمكنون فؤاده، وكشف خبايا قلبه بعد فترة صمت طويلة، مستعيناً بضمير «المُخاطب» ليحلّ مكان ضمير «المتكلم» في نقلة ذكية تدل على براعة مجرن الكتبي في توظيف «المداراة الشعرية» والتخفيف من وقع «الأنا» من خلال تسريب عواطفه المختزنة إلى «الغير»، فيورد اسم صاحبه «حسن» كي لا يصبح هو شخصياً مركز الثقل الوحيد في القصيدة، وليكون صاحبه المندوب المخوّل بنقل رسائله الضمنية، وترجمة أشواقه المتراكمة، فالمسافة الفاصلة بينه وبين محبوبة، تحتاج لشخص خالي البال لا تعرقله الهواجس والهموم حتى يستطيع قطعها، والوصول بالتالي إلى الطرف الآخر بكل سهولة ويسر.
وفي هذا المسار المتناوب بين الرجاء واللهفة، والظن واليقين، يبدأ الكتبي في التدرج الحذر، كي ينتقل من الاستهلال، إلى الحبكة، وصولاً إلى ذروة المشهد الشعري، مستعيناً بالأخبار التي وصلته من ديار المحبوب حينا، وبالخيال والتمنّي والافتراض في أحيان أخرى، حيث يعالج قصيدته بتكنيك يقارب السرد القصصي، وبأسلوب مشوّق يزخر بالشخوص والتفاصيل والوصف الدقيق، قائلاً:

«تبلغه في حلّ معطانِ/ الضحى يوم العرب فلّه
سِعَد من هو ياه في غْدانِ/ وذاق من عقب التعب عَلَّه
الصدر دكّان بستانِ/ والمناحر برق مشعلّه
يعلّ داره برق زفّانِ/ خمسة عشر يوم مِنْهَلِّه
بو يديلٍ أسمر وجاني/ ينحشي م الطّيب ويعَلَّه»

دور كبير في إثراء الشعر النبطي
ولد الشاعر مجرن بن سيف بن سويلم الكتبي في بادية الشارقة الوسطى بين منطقتي المدام والذيد، عام 1891تقريباً، وفي دراسة له عن الشاعر، يشير الباحث الدكتور راشد أحمد المزروعي أن مجرن الكتبي أشتهر بلقب: «مجيرن» وهو تصغير لاسمه الأول، ويصنّفه المزروعي ضمن الشعراء الشعبيين الكبار الذين نسيهم الإعلام، 
حيث لم يأخذ المكانة المناسبة بين الشعراء الآخرين، رغم أحقيّته في ذلك، ودوره الكبير في إثراء الشعر النبطي، ومقارعة كبار الأسماء في هذا المجال، مضيفاً أن نبوغ مجرن الكتبي كان واضحاً منذ بداياته الشعرية، وأصبح شعره يقال على كل لسان في البادية، ويعرف أنه شاعر شعبي مفوّه، ولكن للأسف أصبحت أشعاره كما أصبح هو في طيّ النسيان.
وحول سيرته الحياتية يشير المزروعي إلى أن أسرة الشاعر مجرن الكتبي عاشت لفترة طويلة في الذيد، في أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين المنصرم، وقد تنقّل أهله بين مناطق «واسط» و«مزيرع» و«سويحان» وهي مناطق تابعة للشارقة، وذلك عندما كان شاعرنا صغيراً، وعندما شب مجرن الكتبي تزوج من ابنة عمه، ولكن لم تطل زيجته معها، فطلّقها، وأخذ يعمل كالآخرين من رفاقه على كدّ الإبل وبيع الحطب والفحم في الشارقة وعجمان ودبي، وبدأ يقول الشعر في تلك السنين، عندما كان يصول ويجول في البادية، متغزلاً بالنساء ومعبّراً عن تفاعله مع الأماكن التي حلّ بها أو ارتحل إليها، وكان أهله يفضّلون البقاء في منطقة «واسط» وما حولها، فلم يعودوا إلى مناطقهم الأصلية في «الذيد» و«وشاح» و«خضيرة) و«المدام»، وظل شاعرنا عازباً لم يتزوج، وفي عام 1958م غادر إلى الدمام بالمملكة العربية السعودية، وعمل هناك مدّة سنتين، عاد بعدها إلى الوطن، واستقر به المقام في دبي، حيث عمل في جمارك دبي لفترة طويلة حتى بدايات الاتحاد، مقيماً في منطقة «الوحيدة» أو «الحمرية» سابقاً، حيث سمّيت بذلك عندما انتقل إليها أهالي الحمرية من الشارقة، وبنى الشاعر الكتبي في منطقة الوحيدة بدبي خيمة ومسجداً من السعف، وزرع بجانبه النخل وأشجار الغاف، وما زالت تلك الأشجار موجودة حتى اليوم في الموقع نفسه، وبعد قيام دولة الاتحاد عمل شاعرنا في وزارة الزراعة بمنطقة «أم فنّين» القريبة حالياً من مطار الشارقة، وظل يعمل في الوزارة حتى وفاته، رحمه الله، عام 1974م.

ردود قوية
اشتهر مجرن بن سيف الكتبي بردوده ومساجلاته المشهودة مع شعراء عصره أمثال: علي بن رحمة الشامسي من الشارقة، والشاعر كلفوت البدواوي من منطقة مصفوت بعجمان، والشاعر راشد بن عنفوز من دبي، وكانت جلّ ردوده مخصّصة للدفاع عن نقاء الشعر ومكانته وأهميته، مقارنة بما يصدّره الشعراء المتباهون بأنفسهم وقصائدهم من خلال وجهة نظر أحاديّة، يحكمها الغرور والمبالغة في مدح الذات، كما لم يرق له نقد بعض الشعراء لسكان وأهالي مناطق بعينها، وانتقاد شعرائها أيضاً، فكان يتصدى لهذه القصائد بقوة ليدافع بالنيابة عن سكان تلك المناطق، ومن أشهر سجالاته الشعرية تلك التي ردّ بها على قصيدة الشاعر «كلفوت البدواوي» الذي تحدث فيها عن تحدّيه للشعراء، حيث يقول البدواوي:

«ببني على الشعّار سور/ قبّه ودار بها حصار
ما تنرقى تسعين دور/ ومن دونها شرباك دار
سيل الشعر كلّه خطور/ وبيعمّ سيلي ع لقطار»

فردّ عليه مجرن الكتبي قائلاً:

«سافرت في غزر البحور/ والسّيح ما ودّاك دار
شلّ المراكب لي تْدور/ وطبّع خشب قبلك كبار
بنيت بنيانك ع بور/ نلت القميحه والخسار»

مصطلحات تراثية
يرى الباحث الدكتور راشد المزروعي، أن الشاعر مجرن بن سيف الكتبي أحد كبار شعراء المرحلة الأولى من الفترة الحديثة، حيث ولد وعاش خلال القرن العشرين، وتوفي في بدايات الاتحاد، وهي المرحلة التي وصفها المزروعي «بمرحلة الانفتاح» مضيفاً أن المتتبع لقصائد «مجرن» يلاحظ مدى قوة شعره، ومتانة سبكه، وعنفوان أسلوبه، بالإضافة إلى استعماله للكثير من المصطلحات التراثية من البيئة البدوية التي كان يعيش فيها، وبخاصة الإبل، والتفاصيل الخاصة بالخيم وأماكن الإقامة المؤقتة في الصحراء، كما ذكر في شعره السيارات التي عاينها في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، خاصة في قصيدته التي ردّ بها على الشاعر علي بن رحمة الشامسي.
ويشير المزروعي إلى أن فترة الستينيات كانت هي الفترة الأهم في التجربة الشعرية لمجرن الكتبي، حيث وصل لقمة نضجه الإبداعي، خصوصاً بعد رجوعه من الدمام بالمملكة السعودية، واستمر في تألّقه الشعري حتى بداية السبعينيات الماضية، وقد اشترك لفترة بسيطة في برامج الشعراء بتلفزيون دبي، إلا أنه لم يستمر وتوقف عن قول الشعر لسنوات قليلة قبل وفاته، وكان لغيابه عن الإعلام دور في فقدان معظم أشعاره.