إبراهيم الملا
ريمٍ نظرته من ربا «المسكونه»/ ريمٍ نظرته ولا تكدّر لونه
والصدر موزٍ مايلات غْصونه/ ريمٍ نظرته من ربا المسكونه
ريمٍ نظرته من ربا المسكونه
ببسط وبا طالع حِسِينْ الهايِه/ قدّام ما تسقي عليّ المايِه
وخلاف كلٍّ با يسير ع نايِه/ سمعوا كلام اللي إنظره بعيونه
ريم نظرته من ربا المسكونه
ساهمت هذه الجغرافيا الوعرة في انفتاح شهيّة الرواة على استنطاق الخفايا والأسرار والمرويات الغامضة في هذه المناطق الجبلية المسوّرة بعتمة أسطورية لصيقة بها، والمُنتجة لخرافات متداولة، تحتاج للكثير من الجهد البحثي لتحليلها وفهم دوافعها وقراءة مضامينها.
ينتمي الشاعر محمد المحرزي لزمن بعيد نسبياً، حيث ولد في أواسط القرن التاسع عشر، وهو من أهالي «وادي العجيلي»، ويعتبر من أهم شعراء منطقة «الحَيَرْ» التابعة لإمارة رأس الخيمة، ويقصد بكلمة «الحير» في المنطوق الشعبي «جبال الحجر»، ومازال هذا الاسم - كما يشير الباحث الدكتور راشد المزروعي - مستعملاً حتى الآن للدلالة على المناطق الداخلية وسط جبال المناطق الشرقية في الإمارات.
والقصيدة الغزلية الواردة هنا بعنوان «المسكونة» تؤكد براعة الشاعر المحرزي في نظم ما يطلق عليه قصائد «الكراعيات» ومفردها «الكراعية»، حيث يأتي الشاعر بالشطر الأول والثاني والثالث على روي واحد، ولا يلتزمه في سائر أبيات القصيدة، وفي الشطر الرابع يأتي بروي يلتزمه في الموضع نفسه من جميع أبيات القصيدة - كما يوضّح الدكتور راشد المزروعي - مضيفاً: «أما الشطر الخامس، فيكرره الشاعر بحذافيره وبما يتضمنه من كلمات وقوافٍ»، مشيراً إلى أن الدكتور «غسّان الحسن» كان قد ذكر في كتابه «الشعر النبطي في منطقة الخليج والجزيرة العربية – دراسة علمية» أن هذا النوع من الشعر المخموس يسمى «الكراعية»، وأن ابن منظور، صاحب «لسان العرب» ذكر أن من أنواع القصائد البدوية ما يطلق عليه «المسمط» وهو من القصائد المربوعة أو المخموسة.
وتدلّل قصيدة المحرزي أعلاه على هذا البناء الأسلوبي الخاص بشكل ملحوظ وملموس، ونرى فيه أيضاً شعرياً غنائياً بامتياز، حيث يعتمد المحرزي على الإيقاع اللحني المتكرر، المعزّز بالوقع السماعي للقوافي فيما يشبه الجريان الدائري لمياه الأودية وهي تتدفق من المنبع إلى المصبّ، ثم تعود مرة أخرى لنقطة البداية، وهكذا يتكرر الأمر مع كل الأبيات الخماسية في القصيدة، ما يؤكد على الارتباط العضوي بين بيئة الشاعر وأسلوبه التعبيري، وما يتطلّبه هذا الأسلوب من مِعْمارِ بنائيّ متضامن مع جماليات المكان وسحره وظواهره المؤثّرة على نوعيّة النظم وخصوبة الخيال، والمُحَقِّقة لانسيابية المفردات، وجزالة الكلمات.
تترجم القصيدة انبهار الشاعر بفتاة جميلة رآها في منطقة «المسكونة» وشبّهها بالرّيم، ما جعله مضطراً للجمع بين «الذات» و«الموضوع»، فصار الافتتان موزّعاً على جانبين يشملان المنظر البهيّ للفتاة والطبيعة الساحرة للمكان، وعندما يقول الشاعر «ربا المسكونة»، فهو يشير إلى ربوة مرتفعة بين سهلين أو واديين، ومع تواجد الفتاة الجميلة على هذه الربوة، أصبح الوضوح مكتملاً، وبات المنحى الشعري متوّجاً وزاهياً ومزدحماً بفيض الكلام، وسط التصاوير البديعة والمشاهد الآسرة، لذلك يقول الشاعر: «ببسط وبا طالع حِسِين الهايه/ قدّام ما تسقي عليّ المايه»، فبين حسن الهيئة وجريان الماء، ثمة رباط قويّ فرض على الشاعر دمجهما في سياق واحد، وكأنه يتغنّى بالتناسق المشهديّ العجيب بين المرئي والمسموع، وبين المشخّص والمجرّد، وبين ما هو قابل للمعاينة البصرية، وما هو منتمٍ للحدس والانصات والتصوّر، فحسن المظهر متناغم مع إيقاع الجوهر، وصوت الماء المتدفق في الوادي بات يروي العطش الافتراضي لشاعر كان يبحث دوماً عن الإثارة الحسيّة، ويترقّب الانكشاف على الفتنة أينما حلّ وارتحل، فكيف الآن، وقد اجتمعت كل آيات الجمال في فضاء واحد، وفي حيّزٍ مُشْتَرَك،، فتلاقت بذلك كل غايات الفكر والفؤاد والنظر.
بين المحرزي والهاملي
يصف الدكتور راشد المزروعي الشاعر محمد المحرزي بأنه ينتمي لشعراء المرحلة الثانية من المرحلة القديمة التي بدأت في منتصف القرن التاسع عشر حتى فترة العشرينيات من القرن العشرين المنصرم، والتي تحدّدت بوفاة الشاعر الكبير سعيد بن عتيج الهاملي، مشيراً إلى أنه برغم بعد المسافة الجغرافية التي تفصل بين الشاعرين الهاملي والمحرزي، ورغم اختلاف البيئات التي أثّرت في طبيعة قصائدهما، إلاّ أننا نستطيع أن نقرّر أنهما كانا شاعرين معاصرين لبعضهما، ولكن افتراق أسلوبها كان سببه معايشة الهاملي لبيئتي البادية والساحل، بينما عاش المحرزي في «الحير» وسط الجبال والوديان وواحات النخيل، لذلك اعتمدت قصائد الهاملي على ألحان الونّة والردح، أما قصائد المحرزي فجاءت على هيئة «مناظيم» وكأنّ المحرزي صاغها لتُغنّى بألحان خاصة بأهالي منطقته التي يغلب عليها طابع الألحان الشعبية التراثية القديمة التي تؤدى جماعيّاً وتُكَرّر بعض أبياتها باستمرار.
ويضيف المزروعي أن عدد ما تم جمعه من التراث الشعري للمحرزي لا يتجاوز الأربع قصائد، وهي رغم قلّتها إلاّ أنها قصائد ثقيلة في ظاهرها وفي محتواها، وتمتلك أهمية عالية، نظراً لجودتها وكثافة مواضيعها التي توثّق لفترة زمنية معيّنة، وتاريخ اجتماعي فائت، ويبدو أن قصائده الأخرى قد اندثرت بسبب الانقطاع الطويل بين زمننا الرّاهن، والفترة التي عاشها المحرزي، فيما يقارب المائة عام.
شعر وغيبيات
ولد الشاعر محمد بن عثمان المحرزي في «شعبة الصرمة» بوادي العجيلي في العام 1850م تقريباً، وتوفي في بدايات القرن العشرين، وبالمقارنة مع الروايات المتعلقة بسيرته الحياتية والأحداث التي جرت في زمنه، فمن المرجّح أنه توفي سنة 1920م، ويشير الدكتور راشد المزروعي في دراسة له عن الشاعر المحرزي أنه نشأ في بيت علم ودين، وظهرت بوادر موهبته الشعرية لاحقاً، وأنتج قصائد مشهورة تناقلها الرواة من بعده، لارتباط بعضها بأحداث كبيرة من جهة، ولتوفّرها على الحكم والأمثال والمعاني العميقة والأوصاف اللافتة من جهة أخرى، ويذكر أهالي منطقة «الحير» الكثير من الحكايات الغريبة عن الشاعر المحرزي وأنه كان يسخّر الجنّ، ويقيّد الأرض أو «يكفت الأرض» - كما تُقال في اللهجة المحلية - ذلك أنه كان مطوّعاً ورجل دين.
ويشير المزروعي إلى أن المحرزي جمع بين الشعر و«الغيبيات»، وأنه حصل أن قيّد أحد اللصوص مع ناقته ليلاً، حيث لم يستطع اللص الحركة أو الجلوس أو النوم حتى فترة الصباح، ولا الناقة كذلك، حتى فكّ عنه المحرزي قيده السحريّ في اليوم الثاني.
ومن الحكايات الغريبة التي ذكرها الرواة عن المحرزي أنه عندما زار منطقة «كلباء»، علم أن زوجته قد لدغها ثعبان سام قرب إحدى آبار «شعبة الصرمة» في بلدته بوادي العجيلي، فانتقل من «كلباء» التي تبعد كثيراً عن مكان الحادث، ومرّ بوادي الحلو، في فترة صلاة العصر، ووصل إلى مكان زوجته، وما زال الناس يصلّون العصر، أي أنه اخترق حاجزي الزمان والمكان وأتى في التوقيت المناسب كي يمسح مكان اللدغة، ورأى الثعبان وأمره بضرب رأسه بحصاة، ففعل الثعبان ذلك حتى مات، وأخذ زوجته إلى بيته بعد أن شفيت ومعها جرار الماء.
ولا شك أن هذه الروايات العجائبية قد استندت على عنصر التخييل لدى الرواة أنفسهم، ولعله تخييل منبثق من المرجعية المتوارثة حول شخصية الشاعر المحرزي، كونه شاعراً مُلهماً في الأصل، وبسبب ما كان يمارسه من علاجات شعبية اعتمد فيها على الأذكار الدينية والتعاويذ والطلاسم المحاطة بهالة من الأسرار والعلوم الخفيّة لدى هؤلاء النخبة أو الصفوة من ذوي الحضور الخاص في الذاكرة الجمعية.
كارثة «وادي الحلو»
وثّق الشاعر محمد بن عثمان المحرزي للعديد من المواقع التي زارها، وأقام بها واستطاع الوصول إليها، انطلاقاً من مكان إقامته في وادي العجيلي بجبال الحير، ومن هذه المناطق التي وردت في قصائده: كلباء، ووادي الحلو، ووادي القور، والمنيعي، كما وثّق للطقوس القديمة أثناء موسمي الشتاء والصيف، وكيف كان الأهالي يتعاملون مع اشتراطات ولوازم هذين الموسمين، حيث كان الناس يختارون الاحتماء بالجبال والبيوت الحجرية وقت الشتاء، بينما كانوا يرتحلون في الصيف إلى مناطق مفتوحة يطلق عليها «السبلة» المتمتعة بهوائها المنعش ورياحها الرطبة. ومن أشهر قصائد المحرزي التي حفظها الرواة القدامى ونقلوها لمن أتوا بعدهم، وبقيت حيّة وحاضرة في ذاكرة الأهالي، تلك القصيدة التي نقل فيها بدقّة مجريات الكارثة التي حلّت بوادي الحلو - التابعة حالياً لإمارة الشارقة - عندما سقطت عليها الأمطار الغزيرة جداً، في بدايات القرن التاسع عشر، حيث سالت الوديان وجرفت معها ممتلكات الناس وبيوتهم ومزارعهم، ودمّرت بساتين كثيرة، عدّدها الشاعر بالاسم، وهنا مقاطع من هذه القصيدة المليئة بالمشاهد الدرامية ذات الوقع المؤثر والوصف المهيب، وهي قصيدة «مخموسة» يقول فيها:
(وادي الحلو قدّر عليه وسالِ/ شلّ الحصا وتهدّمت ليبالِ
سوى شرى (وادي السبا) المحالِ/ وادي الحلو قدّر عليه وسالِ
وادي الحلو قدّر عليه وسالِ
سوى شرى (وادي السبا) لمحيلي/ في أول التسعين بات يسيلِ
الرعد يلزم والبروق شعيلِ/ ولكنها قدرة كريم عالِ
وادي الحلو قدّر عليه وسال
قدرة كريم اللّي يهلّ اليودِ/ وشِعْبِه يلّي شلّت جمل لكنودِ
ما عقلوه وعيّنوه بقيودِ/ ولا مرّحوه ووثّقوه بعقالِ
وادي الحلو قدّر عليه وسالِ
قالوا غفا الطوفان توّه واصل/ وتفازعوا الشعّار كلٍّ ياصل
وكلٍّ يبا منهم يصوغ أمثال/ وادي الحلو قدّر عليه وسالِ
وادي الحلو قدّر عليه وسال
ويقارن الشاعر المحرزي في قصيدته بين انهيار سدّ «وادي الحلو» وبين انهيار سدّ «مأرب» في اليمن عندما يشير إلى «وادي سبا»، وهي مقارنة تؤكد هول المأساة التي واجهها سكان وادي الحلو والوديان المجاورة له، كما يذكر في القصيدة عبارة «أول التسعين» والمقصود بها أول درّ التسعين الذي يأتي في الشتاء، ويكثر فيه هطول الأمطار الغزيرة، أما عبارة جمل الكنودي فيقصد بها بعير أناس من قبيلة «الكنود»، وكانوا يسكنون وادي الحلو في تلك الفترة، حيث جرفت السيول الهائجة جمالهم بعد أن تركوها سائبة ولم يربطوها بالحبال القويّة.
اختراق المألوف
استطاع الشاعر الكبير محمد بن عثمان المحرزي مقاومة النسيان والمحو والغياب عن المشهد الشعري في الإمارات، رغم أنه يعدّ من الشعراء القدامى، والمتوغّلين بأطيافهم وظلالهم وذاكراتهم في الماضي السحيق، حيث وثّقت السرديات والروايات الشعبية حضوره واسمه وقصائده القليلة المتبقية، نظراً لقوة أشعاره وتميّزها، ولارتباطه شخصياً بقصص ومواقف عجيبة، اخترقت المألوف، وصارت أمثولة مدهشة ومشوّقة ضمن السياق الحكائي والفلكلوري في المناطق الشمالية الشرقية من الإمارات، والتي ظلّت لفترة طويلة أسيرة لمكونّها الطبيعي والبيئي المغلق، المحاط بالجبال، والممتلئ بالشعاب والسهول والوديان.