الفاهم محمد
ما هو الواقع الذي ينبغي أن يقبله الإنسان، باعتباره الحدود التي يجب أن يتوقف عندها، وما هي حدود الخيال التي يمكن أن يبلغها؟.. هذا هو ما تعرضه علينا اللوحة الشهيرة لروني ماغريت والمعنونة بالشرط البشري، هناك تداخل كبير بين اللوحة كعمل فني، وبين الطبيعة الخارجية، لوحة داخل لوحة، تماما كما هو الإنسان، عالم داخل عالم، وكما هو غموض هذا العمل الفني، كذلك التباسات الشرط البشري، التي عبرت عنها لوحة أخرى لبول غوغان، إنها لوحة الأسئلة المطلقة، التي تتضمن الكثير من الرموز والإيحاءات الدينية والفلسفية، لكن ما يهمنا أكثر هو ما خطه الفنان، حيث نجد أسئلة منها: من نحن؟ من أين أتينا؟ وإلى أين نمضي؟ تلكم الأسئلة التي تلخص الشرط البشري: الهوية والأصل والمصير، باختصار كل ما يتوقف عليه وجودنا، وما يمكن أن نبلغه فوق هذه الأرض.
الشرط البشري تعبير استعمله الروائي الفرنسي أندريه مالرو، كعنوان لروايته (la condition humaine)، ثم بعد ذلك نقلته حنة أرندت إلى مجال التفكير الفلسفي، وظهر عنوانا لأحد كتبها، ورغم أن المفهوم لا يحضر حرفياً في تاريخ الفلسفة، إلا أن هذه الأخيرة منذ ظهورها مع اليونان، كانت قد جعلت مسألة التفكير في الشرط الإنساني قضية أساسية لها.
قد يتقاطع مفهوم الشرط الإنساني مع مفهوم الطبيعة البشرية، لكن من دون أن يتطابق معه، لأن هذه الأخيرة هي مجموع العناصر المفروضة علينا كما يحيل على ذلك اسمها من الطبيعية، إنها بمثابة حتمية بيولوجية، بينما يرتبط الشرط البشري، بمجموع الطرائق التي نفهم من خلالها أنفسنا وعلاقتنا بالعالم، فهي تنتمي إلى مقام التجربة الوجودية للإنسان، وبالتالي تدخل ضمن إمكان الاختيار والحرية، وتسمح في نهاية المطاف بتحديد جوهر الإنسان كإنسان.
تستبدل الفلسفة المعاصرة، مفهوم الطبيعة الإنسانية بمفهوم الشرط البشري، ذلك لأن فكرة الطبيعة الإنسانية، ترمي إلى الوقوف على المحددات المميزة للإنسان بشكل مسبق، كما لو أنها قوانين لا نمتلك إزاءها أي قدرة أو فعل، بينما يحيل الشرط البشري على التجربة الإنسانية، التي يحقق فيها ذاته، بمحض إرادته ووعيه، بمعنى أن وجودنا مشروط ومحكوم، بجملة من الأمور لا مناص منها كي نثبت إنسانيتنا، إنها بمثابة الشيء المقصور علينا كبشر.
في الحداثة والأنوار
كان الرهان الأساسي الذي سعت إليه الفلسفة الأنوارية، هو إمكانية تحقيق الشرط البشري عبر ثلاثة مجالات هي: المجتمع والتربية والمعرفة، بفضل هذه المجالات علق الأنواريون آمالاً عريضة على المستقبل، وعلى ازدهار الإنسان وتطوره عبر التاريخ.. إن النعيم لم نتركه وراءنا، بل سنلاقيها أمامنا، إذا اعتنينا جيداً بترقية الإنسان، تربوياً واجتماعياً ومعرفياً، هذه هي دعامات فلسفة التقدم التي ميزت القرن الثامن عشر، والتي مفادها أن الإنسان سيؤسس خلاصه على الأرض، بفضل التحكم في الطبيعة، أو بفضل البناء التعاقدي الذي يسمح بتجسيد العدالة والحرية للمجتمع، أو كذلك بوساطة الإيمان بقدرة العقل، على مراكمة المعارف سواء حول الطبيعة عن طريق العلم، أو سواء حول الوجود عن طريق الفلسفة.
العديد من الفلاسفة اعترضوا على هذا المفهوم للشرط البشري، من بينهم باسكال الذي رفض بشدة هذه الثقة المفرطة التي وضعت في العقل، فالإنسان كائن متناه في كل شيء، في قدراته البدنية، وفي إمكاناته النفسية والعقلية.. كائن معطى للزوال، لكنه أيضاً وهذا هو ما يطبع وجوده المفارق الكائن الوحيد الذي يعي هذا التناهي، ويسعى إلى تجاوزه، عبر كل ما يبدعه من فعل وحركة، هكذا بين ما يملكه الإنسان وبين ما يسعى إليه، بين واقعه المحدود، وطموحاته اللامحدودة، يقع شرط الوجود البشري. يقول باسكال في جملة شهيرة «أي وهم هذا الإنسان؟ وأي وحش، وأي فوضى؟ وأي ذات متناقضة، وأي أعجوبة؟ حاكم على كل شيء، ودودة أرضية غبية، وأمين على الحقيقة، وبالوعة من الشكوك والأخطاء، ومجد العالم وانحطاطه، فمن ذا الذي يفك هذا التشوش؟». الشرط البشري يقوم إذن على المفارقة والالتباس، لكن مع ذلك فهذا «القصب المفكر» (le roseau pensant)، أي هذا الكائن البشري الضعيف والمتناهي، بإمكانه أن يبلغ المجد بوساطة أعماق القلب، وليس فقط بوساطة الأقيسة العقلية والمنطقية كما اعتقدت الفلسفة.
شرط المجتمعات المعاصرة
تعتبر حنة أرندت واحدة من الذين وجهوا انتقاداتهم، لما آل إليه الشرط البشري في المجتمعات المعاصرة، ففي كتابها السالف الذكر تميز الكاتبة بين ثلاثة مفاهيم: العمل وهو النشاط الواقعي الذي يقوم به الإنسان، والأثر وهو ما ينتجه عن طريق عمله، ثم الفعل وهو ما يخلقه الإنسان من هيآت وروابط اجتماعية، عن طريق النقاش والتفكير.
وترى الكاتبة أن شرط المجتمعات المعاصرة، يكمن في هذا الاستلاب الذي يعيشه الإنسان، حيث بات العمل يمزق المجتمع، ويبعد البشر عن بعضهم البعض، ويدفع بهم لتجاوز شرطهم البشري، وهكذا أصبح الإنسان محروما من ابتكار لغة جديدة كما فعل اليونان تمكن الفكر من ممارسة قوته النقدية، بمعنى أن العمل الذي نمارسه اليوم والذي يبلغه أوج تحققه في الإنجازات التكنولوجية، يعمل على تفرقتنا بدل توحيدنا.
هذه الانتقادات ستبلغ أوجها في ما بعد الحداثة.. إننا نعلم الآن ما حدث لاحقا للوضع البشري على جميع هذه الواجهات، فالدولة التعاقدية تحولت في الكثير من الحالات إلى دولة استبدادية، والتأهيل التربوي للإنسان، أصبح بفعل ثقافة الاستهلاك غارقاً في «عصر الفراغ» كما يحمل عنوان كتاب للسوسيولوجي الفرنسي جيل ليبوفتسكي. أما العلم الذي عقدنا عليه آمالنا في تحسين شرطنا البشري، فقد بات اليوم ليس فقط مهدداً للإنسان وحده، بل ولكل الكائنات الأخرى، أي مهدداً للحياة بشكل عام.
هكذا ولأول مرة في تاريخ البشرية، نجد أنفسنا بفعل التطورات التكنولوجية المهولة، وجهاً لوحه أما هذا السؤال المصيري، الذي علينا أن نجيب عليه بكل حسم: هل علينا أن نقبل شرطنا البشري، أم أنه يتوجب علينا العمل على تجاوزه؟