إبراهيم الملا

في منطقة «المريجة» الساحلية بالشارقة، وفي بداية القرن الماضي، ولد الشاعر ياقوت تيسير بن مبارك، وكان عليه منذ البداية مجابهة الغربة المضاعفة، غربة الزمان والمكان، وغربة اليتم المبكّر، حيث ساهم غياب والده وهو ما زال غضَاً وغريراً، في توسيع دائرة الأسئلة المنبعثة من وعيه وإدراكه، ما اضطرّه لدخول صراع مزدوج مع وضعه الاجتماعي المُكَبّل من جهة، ومع رغبته الداخلية في التحرّر وتحديد مصيره الشخصي من جهة أخرى.
ولعلَّ انتباه ابن مبارك لموهبته الشعرية، وإخلاصه لها، كان هو السبيل الأنسب لتثبيت هويّته المستقلّة، وبالتالي الانسلاخ من القيود الحسيّة والمعنويّة التي ولد في محيطها، وكان مُجبَراً على تلبية شرطها القاسي، كان الشعر بالنسبة له هو المنفذ والخلاص وجسر العبور إلى «مدينته الشعرية الفاضلة»، حيث لا تمييز ولا إقصاء ولا خضوع.
انطلق ابن مبارك في ساحة الشعر الشعبي وصار من علاماتها البارزة، ورغم غياب الكثير من قصائده عن الرصد والتوثيق، إلّا أن القليل المتبقّي منها كان كافياً للدلالة على إشراقته المعرفية، واتساع تجربته الممتدة أفقياً وعمودياً، حيث تؤكّد أشعاره على قوة شخصيته واعتزازه بنفسه وتجاوزه لظروفه الصعبة في الماضي، كما يعكس نتاجه الإبداعي قدرته على استثمار الصور والمشاهد الخارجية، وتوظيفها لصالح الغرض الشعري، سواء ما يتعلق بالمديح أو الهجاء أو النصح، أو قصائد الحكمة النابعة من قراءة دقيقة وعميقة ووافية لتحولات العمر وانعطافات الحياة.

An error occurred while retrieving the Tweet. It might have been deleted.

البارحة م الطَرَب ونّيت / أقرا الشِّعر واعدّل ألحان
ومن الدِّجَر والكِيفْ غنّيت / كنّي مْجَرّي مِيل دخّان
ياني مقالك بالتهنّيت / نَظْمٍ مفرّد لي بالأوزان
حيّه عدد ما هبّ تفليت / شرتٍ يِمَلّي بْشَرْع الأسفان

رحلة البحث عن الذات
وفي القصيدة أعلاه التي يوجهها «ياقوت بن مبارك» لصديقه الشاعر الكبير «سالم الجمري»، نرى ملامح القوة التعبيرية لديه، وتميّزه في الاسترسال الشعري، والتدرّج في إيصال الرسالة المطلوبة للجهة المقابلة أو الطرف المعنيّ، موزعّاً قصيدته على ثلاث كتل، مانحاً كل كتلة منها قيمتها وأثرها وثقلها، حيث يبدأ بالاستهلال أو التمهيد، منتقياً العبارات الترحيبية والمُخَفّفة، كي يستدرج الطرف المقابل بأريحية تتجاوب معها النفس ويطيب لها الخاطر، مقلّلاً بذلك من أثر العتاب أو الشكوى في الجزء اللاحق والأهم في بنية القصيدة، وذلك حتى يصل للختام أو «القفلة» وهو حامل لأقل الخسائر الممكنة، ومن دون أن يثير ردّه الأخير بوادر الخلاف والمناكفة من جديد، وكان شاعرنا قد اختبر النتائج السلبية للجدل في حواراته الشعرية الصاخبة مع القامات البارزة في زمنه، أمثال الشاعر راشد الخضر، وسلطان بن علي العويس، وعلي بن رحمة الشامسي وغيرهم.

  • راشد الخضر وسلطان بن علي العويس

يقول ابن مبارك في مستهل القصيدة: «البارحة من الطرب ونّيت / أقرا الشعر وأعدّل ألحان» ليؤكد للشاعر «الجمري» أن قصيدته المليئة بالعتب والامتعاض، كان أثرها إيجابياً عليه، لأنها أثارت قريحته الشعرية، وخلقت في دواخله جوّاً من الطرب والنشوة، وأنها حفّزته على مجاراتها بذات الوزن والقافية، فهذا التحدّي الشعري له قيمته المعنوية البالغة، خصوصاً أن الردود بينهما قد أثارت فضول الناس وجعلتهم يترقّبون جديد الشاعرين بعد الجدال الحاد بينهما أثناء عملهما معاً في الكويت، بعد أن قال «الجمري» قصيدته المشهورة:
«لو لي بَخَتْ ما سِرْت لكويت / ولا بعد فارقت الأوطان
بلا صديق ووِلْف تَمّيت / مِسْتَوْحِدٍ روحي وحيران»
فردّ عليه ابن مبارك حينها، قائلاً:
«لولا الكويت إن كان ولّيت / في «الوصل» با يضرب لك إعلان
ضيّعت عن مجراك ظلّيت / اقبض سنادك خطّ ربّان»
وبقت خلافاتهما الشعرية مستمرة لفترة طويلة، قبل أن تهدأ أمواجها، وتنطفئ نيرانها بقصيدة ختامية لابن مبارك وضّح فيها وجهة نظره النهائية، وحسم الموضوع بقصيدة محايدة لا منتصر فيها ولا مهزوم، وهو الأمر، الذي يشير إليه بوضوح في البيت الثاني من قصيدته هذه، عندما قال: «من الدجر والكيف غنّيت / كنّي مجرّي ميل دخان»؛ أي أنه بات مستأنساً بما آل إليه الأمر، خصوصاً بعد توضيح كل منها لوجهة نظره، ما أفضى إلى راحة باله «الدجر والكيف» وكأنه يقود سفينته بسلاسة وفي بحر هادئ لا تكدّر صفوه العواصف والأمواج العاتية - «كنّي مجرّي ميل دخّان» - ويوثّق مبارك معالم الهدنة والصلح بينهما في بيتين حاسمين أوردهما بوسط القصيدة قائلاً:
«عساك يا «الجمري» تعافيت / لجل اتحكي بصدق واذهان
والا فنا ما ني احتدّيت / ولا بفنّي ظالم إنسان»
ليختم القصيدة ببيت يعيد فيه مياه الصداقة لمجراها الطبيعي دون لبسٍ ولا بهتان، قائلاً:
«هذا وتم الجيل وأوْفيت / نوفّيك يا الشاعر بالإحسان»

التشبثّ بالأمل
ولم تخل قصائد ابن مبارك عندما كان في الكويت من أصداء الحنين ورجع الذكريات، ومن كلمات وتعابير موحية ودالّة على الشوق لأرض الطفولة، وللمشاهد الأثيرة في «المريجة» بالشارقة، وما تمتّع به هذه المنطقة بالذات من حيوية وألفة ودفء، رغم كل التجارب الصعبة التي مرّ بها هناك، إلاّ أن مناطق الشارقة وذاكرة البحر والغوص ظلّت مطبوعة في ذهنه وروحه، وكانت بمثابة الرصيد الوجداني له، والمحرّك الأساس لقريحته الشعرية أثناء الغربة، كان الشعر بالنسبة لمبارك بن ياقوت هو السلوى والعزاء والوسيلة المثلى للتشبثّ بالأمل، وتعويض ما فات من تضحيات وآلام وخسارات.

مفردات الماء والرياح
من الدراسات القليلة والنادرة التي تناولت السيرة الإبداعية والحياتية للشاعر ياقوت تيسير بن مبارك، تلك الدراسة التي قدمها الدكتور راشد أحمد المزروعي والتي يشير فيها إلى ظروف نشأته في بيئة بحرية دونها الكثير من التحديات والضغوط الاجتماعية التي أملتها الأوضاع الاقتصادية في بدايات القرن الماضي، وتحديداً في العام 1900م وهي سنة ولادة الشاعر ابن مبارك، عندما كانت منطقة «المريجة» بالشارقة تجمع العديد من العائلات الكبيرة القاطنة فيها منذ عشرات السنين، ويذكر المزروعي أن حيّ «المريجة» جمع في ذلك الوقت عوائل: «المدفع» و«المزروع» و«العبدولي»، و«المنّاعي» و«السويدي»، وغيرها من العوائل العريقة في الشارقة، وكان والد شاعرنا يعمل لدى سيف بن سلطان السويدي، وقد ولد له ابنه «ياقوت» وكان وحيد أمه التي كانت متزوجة من قبل ولديها ابنة تدعى «هاجر»، وعندما توفي والده كان «ياقوت» صغيراً فتربّي في بيت سيف السويدي، ولمّا شبّ شاعرنا عمل في البحر فتعلّم الغوص والصيد، ونظراً لتعلّق الناس في ذلك الزمان بالشعر والطرب والغناء - كما يشير المزروعي - فقد استهوى ذلك شاعرنا «ياقوت» وبدأ يتعلم قرض الشعر وقوله، ونجح فيه بامتياز.
ويذكر السيد عيد مرزوق بلال، حفيد أخت الشاعر «هاجر» أن الشاعر ياقوت بن مبارك انضم إلى الأهالي الذين كانوا يذهبون إلى الغوص في بدايات الثلاثينيات الماضية، وذهب مع من ذهبوا إلى البحر، يجوبون عبابه ويغوصون في أعماقه بحثاً عن الرزق وسدّ حاجات المعيشة، وظلّوا كذلك برغم الكساد الذي أصاب مهنة الغوص في تلك السنوات، فتحملّوا العذاب والجوع ومخاطر البحر وأهواله في سبيل البقاء، فمرّة يتوقفون عن الخروج إلى البحر، ومرّة يعاودون الكرّة، حتى بدأت الحرب العالمية الثانية في بداية الأربعينيات، فزادت كربتهم واشتد جوعهم، وتفرّقوا في بقاع الأرض يبتغون لقمة العيش، وفي أفئدتهم حب الوطن، ولوعة الفراق.

  • راشد المزروعي

ويجد المتتبّع لمفردات الشاعر ياقوت بن مبارك، ميلها الكبير لقاموس البحر، وما يتعلّق بجغرافيا الماء والرياح والأنواء والطقس، ومصطلحات السفن، وطقوس الغوص وتفاصيله، وهنا نموذج لأبياته الشعرية المحتشدة بهذه المسميات والأوصاف البحرية:
«سلكت لي ملّي شراعه / بابور عن صفْنات الاسفان»
«لوّل أنا أطيّي الحبل طيّ / وأدعي صماخ الغيص منشوع
واليوم قوت النوخذا شوىّ / أشكي قَصْف م العطش والجوع»
«أو عدّ ما نبت وحصى وشيت / ومن زود مبروكات الألوان»
فالشيت هو ما يلفظه البحر من حصى وغيره، و«مبروكات الألوان» هي المحار والأصداف التي يوجد بها اللؤلؤ
ويقول في بيت آخر:
«حيّه عدد ما هبّ تفليت / شرتٍ يملّي بشرع الأسفان»
و«الشرتا» كما يوضّح الباحث «فهد علي المعمري» هي المسمّى الشعبي للهبوب الباردة من الرياح، وتأتي «الشرتا» من الشمال الشرقيّ، ودائماً ما تكون شديدة وقوية.

أرض الأحلام
بعد أن اشتدت الأوضاع المرهقة في المكان، قرّر الشاعر ياقوت بن مبارك السفر إلى الكويت: الأرض الواعدة بالفرص والأحلام، والدولة الشاهدة على أولى ملامح التطوّر والحداثة، حيث ساهم التنقيب المبكّر عن النفط في أراضيها وبحارها في توافر فرص عمل متنوعة لأبناء الخليج المتأثرين من التبعات الصعبة والأليمة لكساد تجارة اللؤلؤ، ومن النتائج الاقتصادية المريعة للحرب العالمية الثانية، شدّ ابن مبارك رحاله إلى الكويت في نهاية الأربعينيات الماضية – كما يذكر الدكتور راشد المزروعي - لأنها كانت من أغنى إمارات الخليج في تلك الفترة، والتقى شاعرنا هناك بعدد من أهالي ورجالات الوطن الأم، ومنهم شعراء، أمثال: سالم الجمري، وربيّع بن ياقوت، وغيرهما، وعاش هناك أكثر من عشرين عاماً، وذلك بدءاً من العام 1950م، حتى عام 1971م، حيث اشتغل بمهن متعددة كان يتكسّب من ورائها، وتأثر في تلك الفترة بالنزعة القومية والتحررية للدول العربية، بعد معاناة طويلة من الاستعمار الأوروبي وما ترتب عليه من جهل وتخلف وتبعية، ونظّم ابن مبارك الكثير من القصائد الحماسية أثناء إقامته في الكويت، خصوصاً ما يتعلق بثورة يوليو، وبوادر الاستقلال في العراق والشام والمغرب العربي، وكذلك ما يتعلّق بالعدوان الثلاثي على جمهورية مصر بعد تأميم قناة السويس، كما تفاعل مع المجريات السياسية اللاحقة مثل نكسة يونيو عام 1967م، وما أعقبها من اضطرابات على مستوى الوطن العربي.