إبراهيم الملا 

حسبي على حلمٍ غواني / لي غثّني والنوم ما طاب 
من زين لي بيّت يباني / ساعة ولنّ الحِلْم كذّاب 
النوم عقبه ما هِناني / واجحفت من كثر التّقلّاب
معتاق من سيرة (عِمانِ) / وأقول ني الله من الانشاب

نداء الأحلام
يشكو الشاعر الكبير «علي بالعطيب العامري» المشهور بلقب الشاعر الكيف، في القصيدة أعلاه من تقلّبات الهوى وقسوة الهواجس، خصوصاً بعد انتقال هذه الهواجس من حيّزها الذهني إلى الحيّز الجسدي المحسوس والملموس، وهذه الانتقالة رغم عنفها وشدّتها تؤكّد  تجذّر العشق في دواخله، حتى إن التمييز بين الحلم والواقع بات صعباً، بسبب اختلاط المشاعر وتزاحمها وغياب الحدود الفاصلة بين الظنّ واليقين، وبين الحاضر والغائب، وبين الراحل والمقيم، تذوب المسافات، وتقصر الدروب، عندما يصير الحلم جسراً بين المنسيّ والمرئي، وبين البعيد والقريب، ولذلك يجيّر شاعرنا موقفه على «الغواية»، وهي حالة لاحقة على «الحلم» بوقعه الشديد الأقرب للتجسيد منه للتجريد، فيقول: «حسبي على حلمٍ غواني / لي غثّني والنوم ما طاب»، مشيراً إلى أن ما يحرّم النائم من لذّة الرقاد، لا بد أن يكون مُسَبّبه قاهراً، ودافعه مؤثراً على الفكر والفؤاد، فهو تأثير ضاجُ ومُربِك، ولكنّه يستحق في النهاية الالتفات إليه، وتفسير منطلقاته، وتلبية مطالبه، لذلك يستطرد العامري قائلاً: «من زين لي بيّت يباني / ساعة ولنّ الحِلْم كذّاب» .. «النوم عقبه ما هِناني / واجحفت من كثر التّقلّاب»، ليخرج نفسه من دائرة الحيرة والبهتان، ويسعف ذاته من وجع الجوارح، وألم الفقدان، مستعيدا صورة «الزّين» أو المحبوب، باعتبارها الصورة المثالية المحفورة في الوجدان، والراكزة في البصيرة، وهي أيضاً الصورة التي لا يستطيع الحلم العابر والمخادع أن يضاهيها في الجمال والاشراقة والتألّق، ومن هنا يلجأ الشاعر لليقظة واستعادة هيئة وقوام المحبوب بدلاً من الاستسلام للمنامات الخدّاعة، الجالبة للوهم، وللترقّب الخالي من اللقيا، ومعاينة المحبوب، والتواصل معه، مضيفاً في المقطع التالي للبيت الشعري أنه لم يعد يهنأ بالنوم، ولم يعد مهتماً ببضاعته الخاسرة، فاختار التقلّب في فراشه، وعدم الخضوع للسهاد وما يترتّب عليه من طول حرمان وكثرة هواجس، وهو الأمر الذي نراه ملموسا في بقية أبيات القصيدة والتي يقول فيها: 
(يا كان يا «مبارك» تباني
قم رِدّ لي من الهين دعّاب
حيدٍ هميمٍ ديعبانِ
من الصَلَف ما ياك تعّاب 
بايَنّبِه غربي «عمانِ»
ينوب يازم سيره صْلاب
والعصر بانضوي يراني 
هذاك وين اخْويكم اصْطاب
من ضامرٍ معهم رماني 
لي بالمعالج وثّق وصاب
تمّيت متليّع زماني
بالروف بي يا ولد الانجاب)
 
وهنا يلجأ الشاعر لصديقه «مبارك» ويخاطبه، كي يهيئ له الركاب المناسب كي يصل لديار المحبوب، ويذكر شاعرنا وبشكل مُفصّل نوع الركاب ومواصفاته: «قم ردّ لي من الهين دعّاب، حيدٍ هميمٍ ديعبان، من الصَلَف ما ياك تعّاب»، وهي أوصاف تنبع مباشرة من البلاغة النبطية المتصّلة بجذورها اللغوية الفصيحة، والتي يشرحها لنا الباحث الدكتور حمّاد الخاطري، مشيراً إلى أن «الحيد الهميم الديعبان» هو البعير السريع في جريه، والذي لا ينقطع ركضه، وأن يكون من «الصَلَف» أي القادر على تحمّل قسوة الدرب ومشقّة السفر، فهذه الأوصاف ستوفّر لشاعرنا العدّة المطلوبة للانتقال من حالة التمنّي إلى حالة التحقّق، وبالتالي الفوز والظفر بالمحبوب، وستعزّز هذه المواصفات الخاصة بوسيلة السفر موقف الشاعر من إثبات محبته وتلبية نداء قلبه، فقطع البراري الفسيحة والصحاري الواسعة يحتاج لأمرين مهميّن: الجرأة الذاتية، والبعير القوي والنشيط والسريع، كما يحدّد شاعرنا العامري وبدقّة المعالم والملامح المُمَيّزة لديار المحبوب، وكأنه يتبع خارطة ذهنية لصيقة بذاكرته البصرية، كيف لا، وهي الخارطة الدالّة على المكان الأمثل، والمطلب الأسمى، كي ينال مراده، وكي يصبح الحلم المؤجّل واقعاً ملموساً، ووَعْداً متحقّقاً.

An error occurred while retrieving the Tweet. It might have been deleted.

ويشير الدكتور راشد أحمد المزروعي في دراسة له عن الشاعر «الكيف» أنه عاش صباه في مناطق البادية، متنقّلا مع أهله بين دبي، والفقع، والهير، والعين، والختم، والوجن، والقوع، كما استقروا في منطقة «الصفا» القريبة منهم بسلطنة عمان، ثم في «مديسيس» - القوع حاليّاً-، ثم الرحيب، وأخيراً في منطقة الوجن بالعين.
ويضيف المزروعي أن الشاعر «الكيف» تزوج في بداية حياته من إحدى فتيات قبيلة الدروع الكريمة، ورزق بعدد من الأبناء، إلّا أنهم توفّوا صغاراً، ولحقتهم والدتهم، وقد ظلّ شاعرنا أعزب لسنوات طويلة، قبل أن يتزوج مرة أخرى في سنوات حياته الأخيرة، وكان قبل زواجه الثاني يجول بين المناطق المختلف، يقول التغاريد والأشعار، وينثر قصائده الغزلية الجميلة بين من يصادفهم في ترحاله وأسفاره المتعدّدة، وعمل شاعرنا بالمهن المتوفرة في تلك الأزمنة الصعبة وهي مهن تتعلق بمكدّة الإبل، وبيع الحطب والفحم، ونقل المسافرين بين العين والمناطق القريبة منها.
ويصف المزروعي الشاعر الكيف بأنه آخر وأشهر شعراء التغرودة في الفترة الحديثة، مضيفاً: «وذلك حتى نميّزه عن شعراء التغرودة المشهورين في الفترة القديمة، أمثال: بن عتيج الهاملي، وبن خمس، وبن وريقه، وبن حمّ، وبن قَنَش، وغيرهم، حيث يعد الشاعر الكيف أهم شاعر تغرودة جاء بعد هؤلاء الروّاد لهذا الفن الشعريّ الخالد، وخاصة في العصر الحديث».
ويوضّح المزروعي أنه ورغم اندثار 90 بالمئة من أشعار وتغاريد الشاعر الكيف، إلا أن ما تم العثور عليه منها، يؤكّد على قوة المعاني في تغاريده، وعلى جمالية أسلوبه، وأنه كان يطيل في أبيات التغرودة، وهو أمر غير شائع، حيث لا تتجاوز التغرودة الثمانية أو العشرة أبيات، ولكن لغزارة مخزونه اللغوي، وقدرته على استجلاب القوافي الصعبة وتوظيفها، كان يستطرد في أبياته، ولا يكتفي بالأبيات القصيرة والمكثفة في الشكل الشائع للتغرودة في سياقها التقليدي المتداول.
ويرى المزروعي أن التغرودة تعدّ فنّاً من فنون الشعر الشعبي النبطي، وتشتهر به دولة الإمارات وسلطنة عمان، وتجمع التغرودة بين الشعر والغناء، فهي تقال لتغنّى بلحن مميّز ومخصّص لها تحديدا، وأصل التسمية من: «غرّد»، «يغرّد»، فالبدوي يغرّد بالأبيات التي قالها، بصوته الشجيّ، وهو راكب على جمله أو ناقته، خاصّة في المساء، عندما يكون ساريا تحت ضوء القمر والنجوم، ويتميّز هذا الغناء – كما يشير المزروعي - بأن فيه نوعاً من التغريد واللحن الجميل، ولذلك سمّوها: «تغرودة». مضيفاً أن أشطر التغرودة لها قافية ثابتة لا تحيد عنها، وكل شطر يعتبر بيت شعريّ منفصل بذاته، وعادة ما تكون التغرودة قليلة الأبيات ومكثّفة، وتتميّز بأن لكل تغرودة موضوعاً واحداً، وأشهر ما تقال فيه الهجاء والمدح، كما أن لها لحنا واحداً متعارف عليه لا يتغيّر مطلقاً.
أما الباحث الدكتور حمّاد الخاطري، فيرى أن التغرودة تستقي أهميتها من نظرتها النقدية للأشياء والظواهر والشخصيات، وبالتالي يغلب عليها «الهجاء» كمحفّز أساسي ودافع مهمّ للتعاطي مع التغرودة باعتبارها الترجمان الشعري لما يعتمل في دواخل الشاعر من رأي، أو وجهة نظر تجاه قضية معينة، أو موقف محدّد بحاجة للتوضيح والكشف والمراجعة، ويضيف الخاطري أن التغرودة ارتبطت بخصوصية الحال والمكان، حيث ينشدها الشاعر وهو يجاري إيقاع اهتزاز الإبل أو المطيّة أثناء سفرها وترحالها وسط دروب الصحراء ومسالكها.  

قصة «شمسه»
عرف عن الشاعر الكيف، أنه كان يهجو بشدّة من يتعرّض له شعريّاً، وله في ذلك تغاريد هجاء مشهورة، ومنها التغرودة المرتبطة بقصة مشوّقة يوردها الباحث الدكتور راشد المزروعي عندما مرّ الشاعر الكيف في الأربعينيات الماضية بمورد ماء «العشوش» القريب من منطقة «جبل علي» من ناحية الشرق، وكان يسكن عليه بعض البدو، وقد سمع الشاعر الكيف عن امرأة معروفة بالكرم تسكن هناك، اسمها «شمسه»، وفي إحدى تنقلاته مرّ عليها ولم تكن تعرفه أو يعرفها، أو ربما مرّ على امرأة غيرها، وظن أنها «شمسه»، فلم ينل شيئاً من كرمها ولم ترحّب به، فقال فيها تغرودة يهجوها بها، ومنها: 
(عساك يا «شمسه» مروش مْرِيم / لو هي رحيمه بالسلام تريم)
 ولما وصلت هذه التغرودة للشاعر سعيد بن معضد المشغوني - رحمه الله - وكان يقيم في نفس المنطقة، ويعرف جيداً الخصال الكريمة لتلك المرأة، لم تعجبه تغرودة «الكيف» فردّ قائلاً:
(يا «الكيف» قبل تزلّ قدرك عودِ
ذمّيت «شمسه» والوِسِعْ ممدودِ
العود نايف واللّثم مبرودِ
واليوم لا ناشد ولا منشودِ
الصّلح وَقّف والبرا مردودِ)
ولما وصلت التغرودة للشاعر الكيف غضب وقال ردّاً على تغرودة المشغوني: 
(يا راكبٍ لي داهلة بالكودِ
حثّ المسير ونوح بالتغرودِ
وسلّم على بدو «العشوش» حشودِ
صلاتهم وقيامهم منقودِ 
وقصورهم ما يلبسه معبودِ)
وبعد سنة مرّ الكيف على «العشوش» وعند مورد الماء هناك، وجد امرأة ترحب به وتكرمه، فارتاح الشاعر لها، وسأل الناس عنها، وبعد عودته، قالوا لها أن تلك المرأة هي «شمسه»، فأحس باللوم وتأنيب الضمير، وأنشد تغرودة يمدحها فيها، ويقول: 
(النفس ني ع الظلم وزّيناها
لي هم بدوْا فيها وحن قلناها)

آخر شعراء «التغرودة» 
وُلِد الشاعر علي بن علي بالعطيب الحليطي العامري، عام 1910م في منطقة «الختم» الواقعة بين أبوظبي والعين، وتوفي، رحمه الله عام 1982م، واعتاد الناس إطلاق اسم «الكيف» على الشاعر علي العامري، حتى اشتهر به، وصار لقباً له، وقد يعود سبب التسمية لطبيعة قصائده المستندة على مزاج شعري عالٍ، يغلب عليه الطابع الغنائي، واللحن الجاذب والسلس، خصوصاً أن الشاعر «الكيف» يعد قامة شعرية في مجال فن «التغرودة» المؤدّاة في ظروف معيّنة مرتبطة بالسفر ليلاً على ظهور الإبل، وهي ظروف غير متاحة اليوم بسبب التغيّرات الكبيرة في فترة ما بعد الطفرة، والتي تبدّلت معها وبشكل كامل، وسائل النقل ومظاهر الحياة وسبل التواصل.