فاطمة عطفة

اكتست الترجمة أهمية بالغة على مر العصور، فهي وسيلة للتواصل الإنساني والتفاهم بين الشعوب، ولتسليط الضوء على أهمية الترجمة كجسر تواصل إنساني كانت لـ«الاتحاد الثقافي» لقاءات مع أكاديميين ومفكرين أجمعوا على دورها المحوري، الثقافي والحضاري، في تعزيز التعارف والتعاون بين الأمم والشعوب. وهذا ما أبرزه  د. محمد آيت ميهوب أستاذ الأدب الحديث ومناهج النقد الأدبي والترجمة بكلية العلوم الإنسانية بتونس العاصمة، والفائز بجائزة الشيخ زايد للكتاب فرع الترجمة 2020، عن كتاب «الإنسان الرومنطيقي» للكاتب جورج غوسدورف،  حيث استهل حديثه مؤكداً أنه لا يمكن التعارف إلا باللغة، ومن ثم كانت ضرورة الترجمة للتواصل بين الشعوب، والاستفادة من بعضها بعضاً، وتجنب أي سوء فهم أو تفاهم قدر الإمكان. وكانت الترجمة من أهم عناصر ازدهار الحضارة الإسلامية العربية في العصر العباسي الأول من خلال تعريب كتب اليونان والفرس والهنود والسريان. وكذلك كان الحال أيضاً في أهمية الترجمة كرافعة علم ومعرفة وتعارف في مختلف عصور الحضارة الأخرى، بما في ذلك عصر النهضة الأوروبية الحديثة. 
وقد استفادت أوروبا في عصر نهضتها خاصة من المؤلفات العربية في القرون الوسطى، حيث يقول العالم الفرنسي بيير كوري الحاصل على جائزة نوبل في الفيزياء عام 1903: «تمكنا من تقسيم الذرة بالاستعانة بـ30 كتاباً بقيت لنا من الحضارة الأندلسية، ولو لم تحرق كتب المسلمين، لكنا اليوم نتجول بين المجرات».
وحول أهمية إتقان لغتين، يقول د. ميهوب: المرء يتعلم اللغة على مستويات مختلفة فهماً ونطقاً وكتابة، فالذي يريد أن يترجم من لغة ما لابد أن يفهمها فهماً عميقاً، وينبغي أن يفهم أيضاً ثقافة تلك اللغة وحضارتها، وخصوصاً إن كان يريد ترجمة شعرها وأدبها وفلسفتها، ولكن ليس من الضروري التمكن نفسه من النطق والكتابة. أما بالنسبة للغة التي يترجم إليها فلابد أن يكون متمكناً منها من مختلف النواحي فهماً ونطقاً وكتابة ونحواً وإعراباً وثقافة وحضارة وتاريخاً، ولذلك نجد أحياناً على سبيل المثال مثقفاً عربياً يستطيع أن يترجم من «الإنجليزية» إلى «العربية»، ولكن لا يستطيع أن يترجم بالعكس من العربية إلى الإنجليزية بشكل مقبول.

  • محمد آيت ميهوب

أما فيما يتعلق باختلاف ترجمة النص الواحد بين مترجم وآخر، فيرى د. ميهوب أن ذلك يرجع إلى أسباب عدة، منها أن الترجمة في النصوص غير العلمية تختلف حسب الفهم، كما أن تمكن المترجم من اللغتين يختلف كذلك من مترجم وآخر، وكذلك معرفته بالثقافتين، مشيراً إلى أن المترجم قد يكون تجارياً في نظرته أو متعجلاً، بينما يقوم مترجم آخر بالعمل عن شغف وليس عن حاجة للمردود المالي فيعطي النص كل الوقت اللازم للإتقان. أما في الشعر فالأفضل أن يكون المترجم شاعراً.
 وحول غلبة الترجمات الأدبية، فذلك مرده إلى أننا نعتمد على قراءة ودراسة الكتب العلمية عادة باللغات الأوروبية الرئيسة التي استعمرت منطقتنا ولم ننتقل حتى الآن إلى تدريس العلوم والطب والهندسة.. إلخ في جامعاتنا بالدول العربية بشكل عام باللغة العربية. ويضيف د. ميهوب أننا أمة لها شعر وأدب متميز منذ العصر الجاهلي وحتى اليوم ونحب الشعر والأدب وقد اهتممنا بالاطلاع على آداب الشعوب الأخرى والاستفادة منها، علماً أن ترجمة الأدب أصعب من ترجمة العلوم.

إتقان اللغة
ومن جانبها، ترى د. هناء صبحي، أستاذة الأدب الفرنسي واللغة الفرنسية في جامعة السوربون أبوظبي، أن الترجمة تشكل عنصراً مهماً في اللوحة الثقافية للشعوب، وذلك لأهميتها في التقريب من خلال الأجناس الأدبية من رواية وقصة ومسرحية وشعر ومقالة وأيضاً العلوم المختلفة، ولا يمكن للشعوب أن تحيا منغلقة على ثقافتها فحسب، فالاطّلاع على ثقافات الشعوب الأخرى من خلال قراءة الكتب المترجَمة يجعل المرء أكثر انفتاحاً وإدراكاً، وبالتالي أكثر تسامحاً مع الآخر الذي يظل غامضاً إلى أن نكتشفه ونطلع على ثقافته ومفاهيمه بفضل الأعمال المترجمة فيصبح أكثر قرباً منا.
وتؤكد د. هناء  أهمية إتقان لغتين، لأن الترجمة لا يمكن أن تكون جيدة دون إتقان اللغتين، لغة المصدر (وهي اللغة المترجم عنها)، ولغة الهدف (وهي اللغة التي يترجم إليها). وترى أن المقصود هنا بالإتقان ليس إتقان المعنى الحَرفي للكلمات فحسب، بل معرفة سياقها النصيّ، مؤكدة على ضرورة المعرفة بثقافة المجتمع الذي نترجم عن لغته وكذلك الثقافة التي نترجم إليها، لأن الترجمة إبداع وقد ينطبق عليها ما ينطبق على الكتابة، وينبغي على المترجم الجيد أن يشعر بما شعر به مؤلف النص المصدر كي يتمكن من نقل مشاعره إلى اللغة الهدف، فهي عملية إبداع ثانية.

  • هناء صبحي

أما بالنسبة لاختلاف الترجمات للنص الواحد، فتقول د. هناء: لكل مترجم أدواته اللغوية، وتكوينه النفسي، وخزينه الثقافي، وحسه الأدبي، لافتة إلى أن المهم في الترجمة، ولاسيما في ترجمة النص الأدبي، هو التقاط روح النص والخيط الذي يربطه من البداية حتى النهاية، وإذا كان المترجم لا يملك هذا الحس الأدبي العميق فلن يتمكن من التقاط هذه الإشارات، فتأتي الترجمة مفككة، وتفقد النص الأصلي جوهره.

محفّز حضاري
أما د. شهاب غانم، الشاعر والمترجم، فيقول إن الترجمة في مستواها العميق لقاء يتجاوز المؤلف والمترجم إلى ثقافة كليهما، بما يعنيه ذلك من قيم ورؤى للوجود ومفاهيم وطرائق مختلفة للتعامل مع الواقع، بل متناقضة متنافرة في كثير من الأحيان، ففعل الترجمة يندرج بالضرورة، مثله مثل كلّ إنتاج ثقافي، في سياقات الحضارة التي ينتمي إليها اجتماعياً وتاريخياً وسياسياً واقتصادياً أيضاً.
ويعود د. غانم إلى عهد المأمون، فيرى أن الفضل الأول للترجمة تجلى في خلخلة الركود الثقافيّ وزحزحة الفكر العربيّ التقليديّ عن بعض مسلّماته ويقينيّاته وطرقه المعتادة في المعرفة، وكان للترجمة الفضل الأول في بلورة أبرز الاتجاهات الفكرية التي ما زالت فاعلة إلى اليوم، وكانت بوابة العرب لتأكيد الاهتداء بالعقل والتمسك بالعلم والجمع بين التراث والحداثة وتجديد الفكر الديني.
وتكمن أهمية الترجمة في رأيه في أنها قامت بعمل المحفّز الحضاري، ومهدت الأرضية الملائمة، انطلاقاً من معرفة الآخر، لإعادة التعرف إلى الذات وتقييمها والبحث عن قياس المسافة التي تصلنا به وتبعدنا عنه في الوقت نفسه، وبذلك كان المترجمون كما يقول الشاعر الروسي «ألكسندر بوشكين» هم «خيول بريد التنوير»، حيث أعقبت الترجمة في كلتا الحركتين مرحلة الإبداع والخلق الذاتي في مستويات علميّة وحضاريّة كثيرة.

  • شهاب غانم

ويرى د. غانم أن المترجم سفير من لغة إلى أخرى، ومن تحصيل الحاصل أن يكون متقناً للغة المصدر لا جيداً فحسب، بل إتقان معمق بليغ يمكنه من أن يفهم الرسالة التي يحملها النص في لغته الأصلية، وأن يتقن أيضاً بمثل الإتقان الأول اللغة الهدف التي سينقل إليها الرسالة التي يحملها، مبيناً أن المسألة تتجاوز البعد التقني الفني الذي يتصل بعمل المترجم، ليرتقي إلى البعد الأخلاقي نفسه، فإتقان اللغتين شرط أساسي ليحقق المترجم مطلب الأمانة في الترجمة، ويستحضر بعض التجارب المبكرة في الترجمة العربية الحديثة ضارباً المثل بالمنفلوطي، مشيراً إلى أن المترجمين أقدموا على ترجمة نصوص من الأدب الفرنسي دون أن يكونوا عارفين بأسرار هذه اللغة، وعولوا في ذلك على أصدقاء لهم يتقنون الفرنسية فذللوا لهم الجزء الأول الأساسي في كل ترجمة وهو قراءة النص في اللغة المصدر، مؤكداً أننا اليوم بعد مضي ما يزيد على قرن لا يمكن أن يسمح مترجم لنفسه أن يترجم من لغة لا يعرفها معرفة دقيقة.

فعل تأويلي فردي
في مسألة الاختلاف في الترجمة، يرى د. شهاب غانم، أنها أمر طبيعي، لاسيما في ترجمة النصوص الأدبية عالية القيمة الإبداعية، وهذا الاختلاف يمكن أن يكون مقياساً لدراسة عمل المترجم ومعرفة مدى الاجتهاد الذي بذله، واستخلاص منهجه في الترجمة، مؤكداً  إمكان الاختلاف بين ترجمتين متكافئتين في الجودة والإتقان؛ لأن الترجمة فعل تأويلي فردي يرتبط إلى حد بعيد بشخصية المترجم وذوقه الأدبي وإيقاعه الخاص في التعامل مع اللغة. 
ويوضح د. غانم أن ترجمة معجم النص الأصلي تطرح صعوبة كبيرة أمام المترجم لاختيار المقابلات الملائمة في اللغة التي يترجم إليها، ويستشهد بقصيدة «البحيرة» التي ترجمت ما لا يقل عن عشرين مرة، قائلاً: كلها رائعة، وبذلك يغدو الاختلاف دليل إبداع وتفرد.
ويشير د. غانم إلى أن ترجمة العلوم الإنسانية ما زالت ضعيفة في العالم العربي، وأضعف منها ترجمة العلوم الصحيحة، مع أننا في أمس الحاجة اليوم إلى هذين الحقلين من الترجمة، والسبب في ذلك هو تعثر البحث العلمي في معظم البلاد العربية، كما أن سوق الترجمة محدود تقريباً، فالكتاب العلمي المترجم قد لا يجد مجالاً يسمح بتسويقه، وهذا يثبط إرادة المترجم وينفر الناشر أيضاً.